العلم هاشم اتاسي ح6
صفحة 1 من اصل 1
العلم هاشم اتاسي ح6
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها | ولكن لأنفسهم كانت بك الأثر |
فما كان من الأتاسي إلا أن قام من مقعده وأقبل على منصة الخطابة فعانق اليونس متأثراً، وأخبره أن هذا هو أعظم بيت شعر قيل[59].
وقد كان أديب الشيشكلي قد قام بانقلاب أثناء الفترة الرئاسة الثانية للأتاسي، وذلك في 19 كانون الأول عام 1949. وانتخب الرئيس ثالثة والشيشكلي هو الحاكم العسكري للبلاد[60]. وقامت محاولات كثيرة لتشكيل وزارات باءت بالفشل لتدخل الجيش المستمر. ولما ألف الدكتور معروف الدواليبي وزارته في 28 تشرين الثاني 1951 محتفظاً بوزارة الدفاع، بالرغم من إرادة الجيش السيطرة عليها[61]، قام الشيشكلي بانقلابه العسكري الثاني في الأيام التالية واعتقل رئيس الوزراء الدواليبي وغالب أعضاء حكومته. ولما رأى الأتاسي أن الجيش قد تمادى في فرض سلطته قدم استقالته للمجلس النيابي وعاد إلى حمص في أوائل كانون الأول عام 1951م[62]. ويذكر الصحفي، عدنان الملوحي، والذي ترجم للرئيس الجليل في كتابه "وطنيون وأوطان"، تلك الليلة التي وقع فيها الإنقلاب فيقول:
"وأذكر مرة كنت في القصر الجمهوري أتابع عملي الصحفي، وكان انقلاب قد وقع في الليل، ورأيت الرئيس الجليل هاشم الأتاسي يسير على قدميه عند طرف القصر وهو ينتظر السيارة التي ستحمله إلى مدينته حمص بعد أن رفض البقاء لحظة في رئاسة الجمهورية بعد وقوع الإنقلاب، رغم أن أشد وأقسى وأغلظ الدكتاتوريين والإنقلابيين على الإطلاق، وهو الشيشكلي، لم يجرؤ على مواجهة الرئيس هاشم الأتاسي بفعلته ولم يقرب القصر الجمهوري برجاله وقواته، ولكن الرئيس هاشم الأتاسي مع ذلك، ولشدة حرصه على النظام الديمقراطي وإيمانه به، رفض البقاء في القصر، وعندما بدأت السيارة بالخروج من القصر، أشار إلي، رحمه الله، بيده، فتقدمت منه فقال لي كلمته التي ماأزال أذكرها جيداً: (إذا شئت أن تزور بلدك حمص فلا تنس أن تزورني). ومضى يومئذ بسلامة الله وقلوب كل الشعب معه ومع موقفه من الدفاع عن الديمقراطية وحرية الشعب وسلامة البلاد وسيادتها وكرامتها. وكان الرئيس الجليل هاشم الأتاسي كلما آنس توقف الإنقلابات والمغامرات، وظن أنها انتهت ولن تعود يومئذ، يقبل العودة إلى رئاسة الجمهورية كمرحلة انتقالية وحل للمشكلة، ريثما تجري انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة وتعود البلاد إلى الحياة الديمقراطية وإلا عاد من جديد إلى مدينته حمص وإلى منزله فيها حيث يجد الطمأنينة والراحة والخلاص من وجع الرأس"[63]، انتهى الكلام للملوحي.
ولكن الأتاسي لم يقف مكتوف الأيدي، بل حمل لواء المعارضة من بلدته حمص، وشجع شبان الجيش وباقي الفئات والأحزاب على التمرد وإعادة الحياة المدنية، وكانت جريدة ابن أخي المترجم، فيضي الأتاسي، السوري الجديد الصادرة في حمص، وذلك بمباركة الزعيم الأتاسي، تعارض الشيشكلي، والذي نصب نفسه رئيساً للدولة. وبذل هاشم الأتاسي ما بوسعه ليعزل الشيشكلي عن باقي الدول العربية، فأرسل إلى الحكومات العربية ينبههم ويعلمهم بأن زعماء البلاد الحقيقيين غير راضين عن حكم الشيشكلي، وإلى جامعة الدول العربية يناشدهم بالتدخل قبل أن يمتد إليهم تأثير الدكتاتور السلبي[64]. وفي 4 تموز 1953م عُقد المؤتمر الشهير بزعامة الأتاسي، وفي منزله، حضرته كافة الأحزاب وأمه المبعدون، فكان من الحاضرين ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني، وممثلين عن الزعيم سلطان باشا الأطرش، وتم الإتفاق على إنهاء حكم الشيشكلي المستبد، وعدم الإعتراف بسلطته من الناحية الشرعية، وأضاف الحاضرون تواقيعهم على ما عرف "بالميثاق الوطني" الشهير[65].
ثم أضاف الرئيس الجليل توقيعه، وفي ذلك يقول لطفي الحفار: "أما الرئيس الجليل هاشم الأتاسي، الذي لجأ إليه وإلى حكمته وخبرته هؤلاء الرجال، فقد وافقهم على نصه وذيله بالكلمة الآتية وبتوقيعه:
(لما كانت الأوضاع القائمة في سورية منذ تسعة عشر شهراً قد أشاعت القلق في النفوس، وكان إعلان المسؤولين فيها عن اعتزامهم وضع دستور جديد لها قد زاد في القلق والإضطراب، ولما كان من حق كل مواطن، بل من واجبه، أن يهتم بشأن بلاده، وأن يحسب حساباً للمغارم التي تترتب على مثل هذا الأمر الخطير،فإن طائفة من رجالات البلاد المعروفين بقديم بلائهم وسابق عملهم في حقل الوطنية والقومية العربية قد تنادوا إلى النظر فيما آلت إليه حال البلاد، ثم اجتمعت كلمتهم على هذا البيان وذيلوه بتواقيعهم. وإني كنت على اتصال بسعي هؤلاء العاملين المخلصين، فأعلن بصراحة أنهم مارسوا حقاً طبيعياً ومقدساً لكل مواطن وقاموا بواجب تندبهم إليه الوطنية، والحرص على تفادي الأخطار التي تتعرض إليها البلاد. وتبعاً لما تقدم فإني أعلن تأييدي للبيان تأييداً تاماً مطلقاً في غير تقيد ولا تحفظ، والله سبحانه ولي التوفيق
في 20-6-1953 هاشم الأتاسي)"[66].
وفي هذا الميثاق قرر المجتمعون مقاطعة الإنتخابات التي أراد الشيشكلي إجراءها في تشرين الأول من ذلك العام، وتأليف لجنة مركزية للتنظيم وتوجيه الشعب، وطالب المؤتمرون الشيشكلي بتأليف وزرارة ائتلافية ضامة جميع الأحزاب ما عدا الحزب الذي أنشأه هو (حركة التحرير العربي)، وأن تشرف هذه الوزارة على وضع دستور جديد، وكذلك طالبوه بفك الحصار عن الصحافة والتعددية الحزبية. فما كان من الشيشكلي إلا أن اعتقل جميع المؤتمرين في 24 كانون الثاني عام 1953م، ومن بينهم كل زعماء الأحزاب السياسية المختلفة، إلا زعيم الميثاق الوطني، هاشم الأتاسي، الذي فرض عليه إقامة جبرية في منزله، وذلك لمكانة الأتاسي الكبيرة بين الشعب، ومنزلته العظيمة التي كانت تمنع أياً كان من مواطنيه من اعتقاله[67].
وفي 25 شباط 1954 قاد أمين أبو عساف، وفيصل الأتاسي، ومصطفى حمدون انقلاباً على الشيشكلي بتحريض من الرئيس الجليل، ونفوا الدكتاتور إلى خارج البلاد[68]. واجتمع المنقلبون وزعماء البلاد والسياسيون (الذين أطلق سراحهم من سجون المزة بعد أن زجها بهم الشيشكلي) في حمص التي عجت بهم، وباركوا للرئيس الجليل صموده، وطلبوا منه العودة إلى زمام الحكم الشرعي، فرضي الرئيس الجليل وعاد إلى دمشق، فاستقبل بحفاوة بالغة رسمية وشعبية وقامت الإحتفالات الترحيبية بعودة زعيم البلاد المحبوب[69]. وألقى الأتاسي خطاباً باسم الجبهة الوطنية التي تزعمها لمواجهة الشيشكلي، فشكر الجيش ونوه بوطنية قواده الذين قاموا بالإنقلاب، وعدد مساوئ حكم الشيشكلي وذكر تأييده لإرادة الشعب والجيش التي اقتضت الإطاحة بالطاغية[70].
ونترك الحديث هنا للعطري الذي ترجم بإسهاب للرئيس الجليل فقال:
"وحين انتهى عهد الشيشكلي في 25 شباط 1954 اجتمعت الأحزاب ورجال السياسة في منزل هاشم الأتاسي بحمص، وطلبوا منه بالإجماع العودة إلى الحكم، ليكمل مدة رئاسته الدستورية. ومن أجل مصلحة الوطن، وافق الرئيس الأتاسي على هذا الطلب، رغم أنه كان في سن متقدمة جداً، وكان قد تجاوز الثمانين. واستمر هاشم الأتاسي في رئاسته حتى السادس من إيلول 1955م، وفي هذا التاريخ جرت أول عملية انتقال دستوري للسلطة في البلاد، للرئيس شكري القوتلي، الذي كان قد جرى انتخابه من قبل المجلس النيابي. وقد أوصاه الرئيس الأتاسي أن يكون حارساً أميناً على وحدة واستقلال ودستور ومصلحة البلاد.
وانسحب الرئيس والزعيم المحنك، الوطني، الحكيم، من ساحة العمل السياسي للمرة الأخيرة، وعاد إلى مدينته حمص. ورحل هاشم الأتاسي إلى جوار ربه في السادس من كانون الأول عام 1960م ووري الثرى في حمص، مدينته العزيزة الغالية.
لقطات من حياته وأعماله (والكلام لا يزال للعطري):
· في عهد هاشم الأتاسي تأسس مكتب تفتيش الدولة، وقد تم فيه تعيين عدد من المفتشين الموثوقين، بينهم ابنه الأستاذ رياض الأتاسي. وقد أمر الرئيس الأتاسي بمنحهم جميعاً درجة ترفيع تشجيعاً وتقديراً لهم، ولكنه استثنى ابنه المرحوم الأستاذ رياض من هذا الترفيع كيلا يقال أنه منح الآخرين الترفيع كي يحصل ابنه على الترفيع.
· كان هاشم الأتاسي هادئاً ودمثاً ورقيقاً في معاملته لجميع الناس، ولكنه لم يكن يسمح لأحد من ذوي النفوذ أن يتدخل في صلاحياته أو يتطاول عليها. وحين جاءه ذات يوم العقيد أديب الشيشكلي مع عدد من الضباط، وكانوا مسيطرين على الجيش سيطرة تامة، قدموا له عدداً من الطلبات، متجاوزين فيها الدستور والقانون وصلاحياته، غضب الأتاسي، ورفع عصاه في وجوههم، وطردهم من مكتبه.
· رغم دماثته ورقة حاشيته، كان يكره أشد الكره النفاق والتزلف والمصانعة، وكان يعرض ويظهر استياءه لمن يمارس أمامه هذه الصفات البغيضة.
· أقدم الفرنسيون على اعتقاله أيام الإنتداب الفرنسي ونفوه إلى جزيرة أرواد تجاه طرطوس، لكن أحداً من الضباط الذين قاموا بانقلاباتهم لم يجرؤ على اعتقاله، بسبب مكانته الكبيرة في سورية وسائر الأقطار العربية.
· افتتح المغفور له هاشم الأتاسي معرض دمشق الدولي الأول في العام 1954م.
· في عهد رئاسته الأولى (1936-1939م) تأسس اتحاد نقابات العمال بشكل قانوني عام 1936.
· وفي عهد رئاسته الأولى أيضاً تم إعادة بناء سد بحيرة قطينة وبناء قنوات الري المتفرعة من السد لدى سهول حمص وحماة، وكان سد البحيرة القديم قد بني في العهد الروماني.
· كذلك تم بناء خط حديد ميدان-اكبس حتى الحدود العراقية.
· لدى إعلان الوحدة العربية بين سورية ومصر ذهب هاشم الأتاسي يهنئ الرئيس جمال عبدالناصر بالوحدة حين قدومه إلى دمشق، فاستقبله عبدالناصر على باب قصر الضيافة، ورحب به أجمل وأحر ترحيب.
· عندما انتهت مدة رئاسته الثانية[71]، وبعد الإجراءات الرسمية لعملية تسليم السلطة واستلامها، أقيم له احتفال رسمي وعسكري وشعبي حاشد في منطقة القابون. ثم رافقته إلى حمص حشود غفيرة من المواطنين ومئات السيارات الصغيرة والكبيرة. وفي حمص جرت له حفلات استقبال تكريمية من مختلف فئات الشعب، شملت جميع أحياء المدينة، واستمرت أياماً كاملة"[72]. انتهى هنا الكلام للأستاذ العطري.
قلت: وللأتاسي مواقف كثيرة يذكرها معاصروه تدل على نزاهته وشرف زعامته، ولا أدل على هذا من موقف الرئيس الجليل من خصم الكتلة الوطنية السياسي الوطني المرحوم الدكتور عبدالرحمن الشهبندر الذي عاد من منفاه بعد تولي هاشم بك رئاسة الجمهورية عام 1936م، ورأى الكتلة الوطنية قد تزعمت الحركة الوطنية في البلاد وسارت في نضالها من غيره في فراح رحمه الله يهاجم مشروع معاهدة عام 1936 في بياناته وخطبه، فما كان من السيد سعد الله الجابري وزير الداخلية والخارجية إلا أن أمر بالقبض عليه ونفيه إلى الزبداني تحت الإقامة الجبرية دون إعلام رئيس البلاد، يقول المرحوم أسعد الكوراني في هذا: "وقد سمعت من فائز الخوري أن هاشم الأتاسي أخطر سعدالله الجابري بوجوب إطلاق سراح الدكتور شهبندر، وإلا ذهب إلى الزبداني بسيارة الرئاسة الأولى وعليها علم البلاد ومعه مرافقه وعاد بالدكتور شهبندر إلى دمشق وأطلق سراحه جهارا"[73].
ومن أمثلة اهتمامه برعاياه -وخاصة أولئك الذين لهم تاريخ في النضال الوطني- توسطه لدى طبيب قلب ألماني مشهور ليقوم الأخير بعلاج الزعيم السوري الثوري الكبير، صالح العلي، لما مرض، وكان الطيبب المذكور قد اعتذر عن معالجة العلي لما فاتحه بالأمر بعض أصدقاء العلي من النواب، فما كان من الرئيس الجليل إلا أن طلب من الطبيب أن يرى العلي، والأتاسي هو رئيس البلاد وزعيمها الأول، فبادر الطبيب إلى التوجه إلى البلد التي كان الزعيم العلي يقيم فيها، وقد تأثر بتواضع الأتاسي واهتمامه برعاياه، وقام بالإعتناء بالمريض[74]. ولما توفي العلي عام 1950 أجرى له الرئيس الجليل حفلا تأبينيا في اللاذقية بمناسبة الأربعين حضرها رئيس الوزراء وبعض الوزراء وكبار الشخصيات عرفانا بفضله وبطولته في حربه على الفرنسيين[75].
ويذكر نائب صافيتا عبداللطيف اليونس في مذكراته مواقف عديدة للأتاسي تدل على نواياه النظيفة واحترامه للقانون ولسدة الرئاسة فأخبر عن موقف الأتاسي لما اغتيل العقيد عدنان المالكي، وأراد بعض زعماء الجيش، ومن بينهم الطاغية عبدالحميد سراج، أن يتخذوا من هذا الحدث ذريعة فيباشروا باعتقال من أرادوا ويرموا بهم في السجون دون محاكمة أو سبب ويمارسوا أنواع التعذيب بخصومهم، وضغط هؤلاء على رئيس وزراء الأتاسي، صبري العسلي، ليقوم بإعلان الأحكام العرفية، فاضطر الأخير إلى تجهيز المرسوم، وذهب به إلى القصر الرئاسي ليحصل على توقيع الرئيس الجليل، فلما اطلع الرئيس الأتاسي على المرسوم وأدرك ما يرومه هؤلاء وقف وترك كرسيه صارخاً في وجه العسلي، رئيس الوزارة، بصوت متهدج: "أنتم تحبسون الناس وتعذبونهم دون قانون! أتريد أن تحملني مسؤولية جرائمكم؟ هل لك أن تدافع عني عند الله؟"، وتقدم منه، وهو الكهل الطاعن بالسن وصار ويؤنبه، حتى أوصله إلى السلم، ويتابع اليونس فيقول: "وهناك ارتمى رئيس الجمهورية العجوز على الأرض، وحدث معه انفجار في دماغه. وكنت (أي اليونس) في وفد، مع بعض الزملاء، خارج البلاد، فاستدعينا بسرعة لتدارك موضوع الرئاسة مع بقية النواب، لأن الرئيس الحالي لم يعد قادراً على ممارسة واجباته الدستورية. ومن عجائب القدر أن الرئيس الأتاسي قد شفي بعد عشرين يوماً من حادث الجلطة الدماغية، وعاد لممارسة أعماله في القصر الجمهوري كالمعتاد، وكأن شيئاً لم يحدث! حقاً إن للقدر تصرفاته الغريبة، وحقاً أن للنوايا الطاهرة أثرها وتأثيرها في مجرى حياة الإنسان!"[76].
وقد كان أديب الشيشكلي قد قام بانقلاب أثناء الفترة الرئاسة الثانية للأتاسي، وذلك في 19 كانون الأول عام 1949. وانتخب الرئيس ثالثة والشيشكلي هو الحاكم العسكري للبلاد[60]. وقامت محاولات كثيرة لتشكيل وزارات باءت بالفشل لتدخل الجيش المستمر. ولما ألف الدكتور معروف الدواليبي وزارته في 28 تشرين الثاني 1951 محتفظاً بوزارة الدفاع، بالرغم من إرادة الجيش السيطرة عليها[61]، قام الشيشكلي بانقلابه العسكري الثاني في الأيام التالية واعتقل رئيس الوزراء الدواليبي وغالب أعضاء حكومته. ولما رأى الأتاسي أن الجيش قد تمادى في فرض سلطته قدم استقالته للمجلس النيابي وعاد إلى حمص في أوائل كانون الأول عام 1951م[62]. ويذكر الصحفي، عدنان الملوحي، والذي ترجم للرئيس الجليل في كتابه "وطنيون وأوطان"، تلك الليلة التي وقع فيها الإنقلاب فيقول:
"وأذكر مرة كنت في القصر الجمهوري أتابع عملي الصحفي، وكان انقلاب قد وقع في الليل، ورأيت الرئيس الجليل هاشم الأتاسي يسير على قدميه عند طرف القصر وهو ينتظر السيارة التي ستحمله إلى مدينته حمص بعد أن رفض البقاء لحظة في رئاسة الجمهورية بعد وقوع الإنقلاب، رغم أن أشد وأقسى وأغلظ الدكتاتوريين والإنقلابيين على الإطلاق، وهو الشيشكلي، لم يجرؤ على مواجهة الرئيس هاشم الأتاسي بفعلته ولم يقرب القصر الجمهوري برجاله وقواته، ولكن الرئيس هاشم الأتاسي مع ذلك، ولشدة حرصه على النظام الديمقراطي وإيمانه به، رفض البقاء في القصر، وعندما بدأت السيارة بالخروج من القصر، أشار إلي، رحمه الله، بيده، فتقدمت منه فقال لي كلمته التي ماأزال أذكرها جيداً: (إذا شئت أن تزور بلدك حمص فلا تنس أن تزورني). ومضى يومئذ بسلامة الله وقلوب كل الشعب معه ومع موقفه من الدفاع عن الديمقراطية وحرية الشعب وسلامة البلاد وسيادتها وكرامتها. وكان الرئيس الجليل هاشم الأتاسي كلما آنس توقف الإنقلابات والمغامرات، وظن أنها انتهت ولن تعود يومئذ، يقبل العودة إلى رئاسة الجمهورية كمرحلة انتقالية وحل للمشكلة، ريثما تجري انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة وتعود البلاد إلى الحياة الديمقراطية وإلا عاد من جديد إلى مدينته حمص وإلى منزله فيها حيث يجد الطمأنينة والراحة والخلاص من وجع الرأس"[63]، انتهى الكلام للملوحي.
ولكن الأتاسي لم يقف مكتوف الأيدي، بل حمل لواء المعارضة من بلدته حمص، وشجع شبان الجيش وباقي الفئات والأحزاب على التمرد وإعادة الحياة المدنية، وكانت جريدة ابن أخي المترجم، فيضي الأتاسي، السوري الجديد الصادرة في حمص، وذلك بمباركة الزعيم الأتاسي، تعارض الشيشكلي، والذي نصب نفسه رئيساً للدولة. وبذل هاشم الأتاسي ما بوسعه ليعزل الشيشكلي عن باقي الدول العربية، فأرسل إلى الحكومات العربية ينبههم ويعلمهم بأن زعماء البلاد الحقيقيين غير راضين عن حكم الشيشكلي، وإلى جامعة الدول العربية يناشدهم بالتدخل قبل أن يمتد إليهم تأثير الدكتاتور السلبي[64]. وفي 4 تموز 1953م عُقد المؤتمر الشهير بزعامة الأتاسي، وفي منزله، حضرته كافة الأحزاب وأمه المبعدون، فكان من الحاضرين ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني، وممثلين عن الزعيم سلطان باشا الأطرش، وتم الإتفاق على إنهاء حكم الشيشكلي المستبد، وعدم الإعتراف بسلطته من الناحية الشرعية، وأضاف الحاضرون تواقيعهم على ما عرف "بالميثاق الوطني" الشهير[65].
ثم أضاف الرئيس الجليل توقيعه، وفي ذلك يقول لطفي الحفار: "أما الرئيس الجليل هاشم الأتاسي، الذي لجأ إليه وإلى حكمته وخبرته هؤلاء الرجال، فقد وافقهم على نصه وذيله بالكلمة الآتية وبتوقيعه:
(لما كانت الأوضاع القائمة في سورية منذ تسعة عشر شهراً قد أشاعت القلق في النفوس، وكان إعلان المسؤولين فيها عن اعتزامهم وضع دستور جديد لها قد زاد في القلق والإضطراب، ولما كان من حق كل مواطن، بل من واجبه، أن يهتم بشأن بلاده، وأن يحسب حساباً للمغارم التي تترتب على مثل هذا الأمر الخطير،فإن طائفة من رجالات البلاد المعروفين بقديم بلائهم وسابق عملهم في حقل الوطنية والقومية العربية قد تنادوا إلى النظر فيما آلت إليه حال البلاد، ثم اجتمعت كلمتهم على هذا البيان وذيلوه بتواقيعهم. وإني كنت على اتصال بسعي هؤلاء العاملين المخلصين، فأعلن بصراحة أنهم مارسوا حقاً طبيعياً ومقدساً لكل مواطن وقاموا بواجب تندبهم إليه الوطنية، والحرص على تفادي الأخطار التي تتعرض إليها البلاد. وتبعاً لما تقدم فإني أعلن تأييدي للبيان تأييداً تاماً مطلقاً في غير تقيد ولا تحفظ، والله سبحانه ولي التوفيق
في 20-6-1953 هاشم الأتاسي)"[66].
وفي هذا الميثاق قرر المجتمعون مقاطعة الإنتخابات التي أراد الشيشكلي إجراءها في تشرين الأول من ذلك العام، وتأليف لجنة مركزية للتنظيم وتوجيه الشعب، وطالب المؤتمرون الشيشكلي بتأليف وزرارة ائتلافية ضامة جميع الأحزاب ما عدا الحزب الذي أنشأه هو (حركة التحرير العربي)، وأن تشرف هذه الوزارة على وضع دستور جديد، وكذلك طالبوه بفك الحصار عن الصحافة والتعددية الحزبية. فما كان من الشيشكلي إلا أن اعتقل جميع المؤتمرين في 24 كانون الثاني عام 1953م، ومن بينهم كل زعماء الأحزاب السياسية المختلفة، إلا زعيم الميثاق الوطني، هاشم الأتاسي، الذي فرض عليه إقامة جبرية في منزله، وذلك لمكانة الأتاسي الكبيرة بين الشعب، ومنزلته العظيمة التي كانت تمنع أياً كان من مواطنيه من اعتقاله[67].
وفي 25 شباط 1954 قاد أمين أبو عساف، وفيصل الأتاسي، ومصطفى حمدون انقلاباً على الشيشكلي بتحريض من الرئيس الجليل، ونفوا الدكتاتور إلى خارج البلاد[68]. واجتمع المنقلبون وزعماء البلاد والسياسيون (الذين أطلق سراحهم من سجون المزة بعد أن زجها بهم الشيشكلي) في حمص التي عجت بهم، وباركوا للرئيس الجليل صموده، وطلبوا منه العودة إلى زمام الحكم الشرعي، فرضي الرئيس الجليل وعاد إلى دمشق، فاستقبل بحفاوة بالغة رسمية وشعبية وقامت الإحتفالات الترحيبية بعودة زعيم البلاد المحبوب[69]. وألقى الأتاسي خطاباً باسم الجبهة الوطنية التي تزعمها لمواجهة الشيشكلي، فشكر الجيش ونوه بوطنية قواده الذين قاموا بالإنقلاب، وعدد مساوئ حكم الشيشكلي وذكر تأييده لإرادة الشعب والجيش التي اقتضت الإطاحة بالطاغية[70].
ونترك الحديث هنا للعطري الذي ترجم بإسهاب للرئيس الجليل فقال:
"وحين انتهى عهد الشيشكلي في 25 شباط 1954 اجتمعت الأحزاب ورجال السياسة في منزل هاشم الأتاسي بحمص، وطلبوا منه بالإجماع العودة إلى الحكم، ليكمل مدة رئاسته الدستورية. ومن أجل مصلحة الوطن، وافق الرئيس الأتاسي على هذا الطلب، رغم أنه كان في سن متقدمة جداً، وكان قد تجاوز الثمانين. واستمر هاشم الأتاسي في رئاسته حتى السادس من إيلول 1955م، وفي هذا التاريخ جرت أول عملية انتقال دستوري للسلطة في البلاد، للرئيس شكري القوتلي، الذي كان قد جرى انتخابه من قبل المجلس النيابي. وقد أوصاه الرئيس الأتاسي أن يكون حارساً أميناً على وحدة واستقلال ودستور ومصلحة البلاد.
وانسحب الرئيس والزعيم المحنك، الوطني، الحكيم، من ساحة العمل السياسي للمرة الأخيرة، وعاد إلى مدينته حمص. ورحل هاشم الأتاسي إلى جوار ربه في السادس من كانون الأول عام 1960م ووري الثرى في حمص، مدينته العزيزة الغالية.
لقطات من حياته وأعماله (والكلام لا يزال للعطري):
· في عهد هاشم الأتاسي تأسس مكتب تفتيش الدولة، وقد تم فيه تعيين عدد من المفتشين الموثوقين، بينهم ابنه الأستاذ رياض الأتاسي. وقد أمر الرئيس الأتاسي بمنحهم جميعاً درجة ترفيع تشجيعاً وتقديراً لهم، ولكنه استثنى ابنه المرحوم الأستاذ رياض من هذا الترفيع كيلا يقال أنه منح الآخرين الترفيع كي يحصل ابنه على الترفيع.
· كان هاشم الأتاسي هادئاً ودمثاً ورقيقاً في معاملته لجميع الناس، ولكنه لم يكن يسمح لأحد من ذوي النفوذ أن يتدخل في صلاحياته أو يتطاول عليها. وحين جاءه ذات يوم العقيد أديب الشيشكلي مع عدد من الضباط، وكانوا مسيطرين على الجيش سيطرة تامة، قدموا له عدداً من الطلبات، متجاوزين فيها الدستور والقانون وصلاحياته، غضب الأتاسي، ورفع عصاه في وجوههم، وطردهم من مكتبه.
· رغم دماثته ورقة حاشيته، كان يكره أشد الكره النفاق والتزلف والمصانعة، وكان يعرض ويظهر استياءه لمن يمارس أمامه هذه الصفات البغيضة.
· أقدم الفرنسيون على اعتقاله أيام الإنتداب الفرنسي ونفوه إلى جزيرة أرواد تجاه طرطوس، لكن أحداً من الضباط الذين قاموا بانقلاباتهم لم يجرؤ على اعتقاله، بسبب مكانته الكبيرة في سورية وسائر الأقطار العربية.
· افتتح المغفور له هاشم الأتاسي معرض دمشق الدولي الأول في العام 1954م.
· في عهد رئاسته الأولى (1936-1939م) تأسس اتحاد نقابات العمال بشكل قانوني عام 1936.
· وفي عهد رئاسته الأولى أيضاً تم إعادة بناء سد بحيرة قطينة وبناء قنوات الري المتفرعة من السد لدى سهول حمص وحماة، وكان سد البحيرة القديم قد بني في العهد الروماني.
· كذلك تم بناء خط حديد ميدان-اكبس حتى الحدود العراقية.
· لدى إعلان الوحدة العربية بين سورية ومصر ذهب هاشم الأتاسي يهنئ الرئيس جمال عبدالناصر بالوحدة حين قدومه إلى دمشق، فاستقبله عبدالناصر على باب قصر الضيافة، ورحب به أجمل وأحر ترحيب.
· عندما انتهت مدة رئاسته الثانية[71]، وبعد الإجراءات الرسمية لعملية تسليم السلطة واستلامها، أقيم له احتفال رسمي وعسكري وشعبي حاشد في منطقة القابون. ثم رافقته إلى حمص حشود غفيرة من المواطنين ومئات السيارات الصغيرة والكبيرة. وفي حمص جرت له حفلات استقبال تكريمية من مختلف فئات الشعب، شملت جميع أحياء المدينة، واستمرت أياماً كاملة"[72]. انتهى هنا الكلام للأستاذ العطري.
قلت: وللأتاسي مواقف كثيرة يذكرها معاصروه تدل على نزاهته وشرف زعامته، ولا أدل على هذا من موقف الرئيس الجليل من خصم الكتلة الوطنية السياسي الوطني المرحوم الدكتور عبدالرحمن الشهبندر الذي عاد من منفاه بعد تولي هاشم بك رئاسة الجمهورية عام 1936م، ورأى الكتلة الوطنية قد تزعمت الحركة الوطنية في البلاد وسارت في نضالها من غيره في فراح رحمه الله يهاجم مشروع معاهدة عام 1936 في بياناته وخطبه، فما كان من السيد سعد الله الجابري وزير الداخلية والخارجية إلا أن أمر بالقبض عليه ونفيه إلى الزبداني تحت الإقامة الجبرية دون إعلام رئيس البلاد، يقول المرحوم أسعد الكوراني في هذا: "وقد سمعت من فائز الخوري أن هاشم الأتاسي أخطر سعدالله الجابري بوجوب إطلاق سراح الدكتور شهبندر، وإلا ذهب إلى الزبداني بسيارة الرئاسة الأولى وعليها علم البلاد ومعه مرافقه وعاد بالدكتور شهبندر إلى دمشق وأطلق سراحه جهارا"[73].
ومن أمثلة اهتمامه برعاياه -وخاصة أولئك الذين لهم تاريخ في النضال الوطني- توسطه لدى طبيب قلب ألماني مشهور ليقوم الأخير بعلاج الزعيم السوري الثوري الكبير، صالح العلي، لما مرض، وكان الطيبب المذكور قد اعتذر عن معالجة العلي لما فاتحه بالأمر بعض أصدقاء العلي من النواب، فما كان من الرئيس الجليل إلا أن طلب من الطبيب أن يرى العلي، والأتاسي هو رئيس البلاد وزعيمها الأول، فبادر الطبيب إلى التوجه إلى البلد التي كان الزعيم العلي يقيم فيها، وقد تأثر بتواضع الأتاسي واهتمامه برعاياه، وقام بالإعتناء بالمريض[74]. ولما توفي العلي عام 1950 أجرى له الرئيس الجليل حفلا تأبينيا في اللاذقية بمناسبة الأربعين حضرها رئيس الوزراء وبعض الوزراء وكبار الشخصيات عرفانا بفضله وبطولته في حربه على الفرنسيين[75].
ويذكر نائب صافيتا عبداللطيف اليونس في مذكراته مواقف عديدة للأتاسي تدل على نواياه النظيفة واحترامه للقانون ولسدة الرئاسة فأخبر عن موقف الأتاسي لما اغتيل العقيد عدنان المالكي، وأراد بعض زعماء الجيش، ومن بينهم الطاغية عبدالحميد سراج، أن يتخذوا من هذا الحدث ذريعة فيباشروا باعتقال من أرادوا ويرموا بهم في السجون دون محاكمة أو سبب ويمارسوا أنواع التعذيب بخصومهم، وضغط هؤلاء على رئيس وزراء الأتاسي، صبري العسلي، ليقوم بإعلان الأحكام العرفية، فاضطر الأخير إلى تجهيز المرسوم، وذهب به إلى القصر الرئاسي ليحصل على توقيع الرئيس الجليل، فلما اطلع الرئيس الأتاسي على المرسوم وأدرك ما يرومه هؤلاء وقف وترك كرسيه صارخاً في وجه العسلي، رئيس الوزارة، بصوت متهدج: "أنتم تحبسون الناس وتعذبونهم دون قانون! أتريد أن تحملني مسؤولية جرائمكم؟ هل لك أن تدافع عني عند الله؟"، وتقدم منه، وهو الكهل الطاعن بالسن وصار ويؤنبه، حتى أوصله إلى السلم، ويتابع اليونس فيقول: "وهناك ارتمى رئيس الجمهورية العجوز على الأرض، وحدث معه انفجار في دماغه. وكنت (أي اليونس) في وفد، مع بعض الزملاء، خارج البلاد، فاستدعينا بسرعة لتدارك موضوع الرئاسة مع بقية النواب، لأن الرئيس الحالي لم يعد قادراً على ممارسة واجباته الدستورية. ومن عجائب القدر أن الرئيس الأتاسي قد شفي بعد عشرين يوماً من حادث الجلطة الدماغية، وعاد لممارسة أعماله في القصر الجمهوري كالمعتاد، وكأن شيئاً لم يحدث! حقاً إن للقدر تصرفاته الغريبة، وحقاً أن للنوايا الطاهرة أثرها وتأثيرها في مجرى حياة الإنسان!"[76].
هيثم رشاد كاخي- Çavuş
- عدد الرسائل : 115
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 23/03/2008
مواضيع مماثلة
» العلم هاشم اتاسي ح8
» العلم هاشم اتاسي ح9
» العلم هاشم اتاسي ح1
» العلم هاشم اتاسي ح2
» العلم هاشم اتاسي ح3
» العلم هاشم اتاسي ح9
» العلم هاشم اتاسي ح1
» العلم هاشم اتاسي ح2
» العلم هاشم اتاسي ح3
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى