عماد الدين زنكي، الملك الغازي، ***ّر مدينة الرّهـا
صفحة 1 من اصل 1
عماد الدين زنكي، الملك الغازي، ***ّر مدينة الرّهـا
بقلم: احمد الظرافي
في ظل العواصف الهوجاء التي تعصف بأمتنا، والاحباطات التي يعاني منها شبابنا، في الوقت الراهن، أصبحنا بحاجة ماسة للعودة إلى تاريخنا، لا لكي نتناسى واقعنا المرير، ولا لكي نعزي أنفسنا بأمجادنا وانتصاراتنا التليدة، وإنما لكي نستخلص العبر والعظات من هذا التاريخ، ونأخذ الدروس المفيدة من سير القادة والفاتحين المسلمين السابقين وما سطروه من صفحات مشرقة وضاءة، فلا تنكسر إرادتنا، ولا تخور عزائمنا أمام التحديات الحالية، وليكون ذلك بداية لنهضة إسلامية شاملة نتجاوز من خلالها هذا الواقع الأليم الذي نعيشه، والذي تمر به أمتنا الإسلامية جمعاء.
ومن القادة الأبطال الذين يجدر بنا استعادة ذكراهم، عماد الدين زنكي، رائد حركة الجهاد الإسلامية ضد الفرنجة الصليبيين. ولكي تتضح لنا مكانة هذا القائد والبطل التركي المسلم، وأهمية الدور الذي لعبه في حركة الجهاد ضد الصليبيين، فإننا سنبدأ القصة من أولها:
الفرنجة الصليبون في الشرق
تعرضت الأمة الإسلامية، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي/ أواخر القرن الخامس الهجري، لأول عدوان عسكري خارجي، يغزوها في عقر دارها ويهدد وجودها ومصيرها، ألا وهو عدوان الفرنجة الصليبيين. وهم عبارة عن جماعات بشرية عدوانية ****ت من دول مختلفة في غرب أوروبا – وخاصة فرنسا – للاستيلاء على بلاد الشام والجزيرة، والاستيطان فيها، بدعوة ومباركة وتحريض الكنيسة الكاثوليكية، والبابا أوربان الثاني، وذلك لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وبذريعة تخليص الضريح المقدس في "أرض المسيح" من أيدي المسلمين " الكفار" وتأمين وصول الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة في فلسطين.
وهكذا اندفعت الجحافل الجرارة لهؤلاء الغزاة الفرنجة الصليبيين نحو الشرق، " وقطعوا ألاف الأميال، صوب قلب بلاد المسلمين، وأهلكوا الحرث والنسل في طريقهم، ولم يجدوا أمامهم قوة إسلامية رادعة، لا سيما بعد أن نجحوا في إحراز النصر على الأتراك السلاجقة في العام 1097م- أكبر القوى العسكرية الإسلامية آنذاك- وهو الانتصار الذي فتح أمامهم الطريق إلى آسيا الصغرى ـ الشام ـ وليكن لهم ما أرادوا – بالتالي- وهو الوصول إلى أرض اللبن والعسل، وهي أرض الشام والجزيرة بما فيها فلسطين – كما كانوا يطلقون عليها بناء على ما هو مذكور في كتابهم المقدس- . وقد استخدم البابا ورجل الكنيسة الكاثوليكية هذا الوصف ورددوه كثيرا على مسامع الناس في مدن فرنسا وايطاليا وألمانيا، وذلك خلال فترة التمهيد والإعداد للحروب الصليبية، لحشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين من مختلف التوجهات والمشارب، والزج بهم في الحرب ضد المسلمين، ومنحوهم صكوك الغفران التي يدخلون بها الجنة بزعمهم، فكان ذلك حافزا للكثير من المغامرين والمرتزقة والمهمشين واللقطاء واللصوص وغيرهم، للانخراط في تلك الحرب، لتحقيق أطماعهم الدنيوية ولإشباع رغباتهم الذاتية في تلك الأرض على حساب أهلها المسلمين، وذلك فضلا عن العامل الديني الذي ألمحنا إليه سابقا. والذي يأتي على رأس تلك العوامل جميعا.
وقد تمكن الفرنجة الصليبيون الغزاة في غضون عدد من السنوات من الاستيلاء على أجزاء واسعة من مدن شواطئ وأقاليم بلاد الشام والجزيرة، وأكدوا وجودهم وأهدافهم الاستعمارية الاستيطانية، بإنشاء العديد من الأمارات الصليبية في قلب بلاد المسلمين وأخصبها وأغناها، وهذا في الرها وإنطاكية وطرابلس وبيروت وعكا وصيدا وغيرها، فضلا عن مستعمرتهم الأساسية في القدس وفلسطين. وقد ضموا إلى كل إمارة أو مستعمرة ما يحيط بها من مدن وأقاليم، وعملوا على تأمين كل منها بسلسلة من القلاع والحصون القوية، ونضموا فيها الحاميات، وشحنوها بالمؤمن والسلاح، وبكل ما من شأنه أن يمكنها من الصمود لمدة طويلة في وجه أي هجوم إسلامي محتمل.
وبعد أن استتب وجودهم في تلك الإمارات والمستعمرات المغتصبة شرع الفرنجة الصليبيون في تطوير أعمالهم العدوانية وفي ممارسة أنشطة السلب والنهب ضد المدن والأقاليم والبلدات الإسلامية، التي لم تخضع لسيطرتهم، فاستحلوا لأنفسهم دماء أهلها وأموالهم، وقطع طرقهم، ونهب خيراتهم، وأذاقوهم لباس الذل والخوف، ولم يرعوا لهم عهدا ولا وعدا.
حال المسلمين وواقعهم السياسي
جاء احتلال الفرنجة الصليبيين للقدس ولبلاد الشام والجزيرة، في وقت كان يسود فيه التفكك والشقاق والتشرذم بين المسلمين في الشرق والتشرذم بين المسلمين في الشرق الإسلامي. وكانت تتقاسم أقاليم الشرق الإسلامي حينذاك خلافتان إسلاميتينا متناقضتان ومتصارعتان، وهما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، وكانت كل منهما غداة الهجمة الصليبية أضعف من الأ****. فأما الخلافة العباسية ( السنية ) في بغداد،- وهي الأقدم والأعرق وأيضا الممثلة للغالبية الساحقة من المسلمين- فكانت قد تحولت إلى رمز ديني معنوي، ولم يكن تحت يدها أية قوة عسكرية، وكان الخلفاء العباسيون يمارسون دورا شكليا فقط، ولم يكن لهم أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث خارج نطاق مدينة بغداد، وكانت الهيمنة الفعلية للأتراك السلاجقة الذين دخل الخلفاء العباسيون تحت وصايتهم طوعا منذ سنة (447هـ/1055م )، لدورهم في تخليص الخلافة من سيطرة البويهيين الشيعة المهينة والمذلة لها.
وأما الخلافة الفاطمية ( الإسماعيلية الشيعية )، في القاهرة فقد كانت هي الأخرى منهكة وضعيفة نتيجة الفتن والمشاكل والأزمات الداخلية التي عصفت بها، من جهة . ونتيجة لصراعاتها وحروبها المتواصلة والمكلفة مع الأتراك السلاجقة في الشام،لأسباب سياسية ومذهبية.من جهة أ****. وكانت الهيمنة الفعلية لمقاليد الأمور فيها قد آلت للجماليين – نسبة إلى بدر الدين الجمالي، أحد كبار القادة الفاطميين-. ولم يكن للفاطميين أو الجماليين شأن يذكر في مقاومة الفرنجة الصليبيين خاصة بعد تد*** أسطولهم الحربي وهزيهم البحرية في عسقلان سنة ( 517هـ / 1123م ) ومنذ ذلك الحين انكفأت الخلافة الفاطمية على نفسها وفقدت السيطرة على الأحداث التي حولها ولم تقم لها قائمة أبدا بعد ذلك.
كما أن الدولة السلجوقية والتي كانت وصية على الخلافة العباسية، كانت هي نفسها مفككة ومقسمة إلى إقطاعيات عسكرية منتشرة في الأناضول وفارس والشام والجزيرة. وكانت هذه الإقطاعيات قد فقدت أواصر الارتباط والوحدة فيما بينها، وكذلك زادت أعدادها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار ملكشاه بن ألب أرسلان سنة ( 485هـ، 1092م ) . فضلا عن استفحال الصراع على السلطة في البيت السلجوقي. وكان من أهم تلك الإقطاعيات العسكرية، في بلاد الشام والجزيرة، والتي لها خطوط مواجهة مباشرة مع الفرنجة الصليبيين: أتابكية دمشق وأتابكية الموصل، وكان بينهما وحولهما عدد من الإمارات والمدن والأسر المستقلة، وكان العداء هو الطابع المميز للعلاقة فيما بين هذه الأتابكيات والإمارات، ولم يكن أمراؤها يتفقون على أي رؤية أو خطة مشتركة لقتال الفرنجة الصليبيين الغزاة المحتلين، ولتطهير أرض الإسلام منهم، وهناك من أمراء المسلمين من مال لمهادنتهم وعقد الاتفاقيات معهم، اتقاء لشرهم، وتسليما بالأمر الواقع، وهذا ما فعله حكام دمشق، والذين دفعهم حرصهم على التمتع باستقلالهم وتخوفهم من نوايا زنكي، إلى محالفة الصليبيين ضد زنكي، كما أن بعض أولئك الأمراء المسلمين كانوا أسرع إلى الفرنجة الصليبيين وأقرب إليهم من إخوانهم حكام المسلمين، وأثناء ذلك ظهرت خيانات الخائنين، وانكشف تخاذل المتخاذلين، وتُرك العبء الأكبر من الجهاد على عاتق القوى المحلية التي كان يقودها العلماء العاملون، وغالبا ما كان يحدث ذلك أثناء حصار الفرنجة الصليبيين للمدن والقواعد الإسلامية. وأما من كان يقاتل من أمراء المسلمين فكان يقاتل دفاعا عن نفسه وعن سلطته، وربما للمحافظة على ماء الوجه، ولاتقاء لعنة التاريخ التي لا ترحم، ولا تحابي أحدا، أو لكي لا يخسر ما تبقى تحت يده من المدن والأقاليم الإسلامية.
وهناك بعض العلماء يمموا وجوههم شطر بغداد، دار الخلافة ليشرحوا ما حل ببلاد المسلمين في الشام والجزيرة على أيدي الفرنجة الصليبيين، ولحث خليفة المسلمين على التحرك والنهوض بمسئولياته والقيام بواجبه إزاء هذه النكبة. وقد ذكر هؤلاء العلماء الذين وقفوا بين يدي الخليفة العباسي صورا من من جرائم الفرنجة الصليبيين، وما ارتكبوه من مذابح جماعية في حق المسلمين الأبرياء، ومن سلب ونهب وتخريب وتد*** ما يشيب لفظاعتها ووحشيتها الولدان، وذلك في سائر المدن الإسلامية التي احتلوها أو مروا بها، مثل أنطاكية ومعرة النعمان وغيرهما، فضلا عن المذبحة المريعة التي أرتكبها الصليبيون غداة اقتحامهم لمدينة القدس في 23شعبان 492هـ ، الموافق 15يوليو 1099م ، والتي راح ضحيتها جميع سكانه المدينة من المسلمين والمسيحيين واليهود. ولكن ورغم كل ذلك فإن الخليفة العباسي لم ينهض أبدا للقيام بواجبه، وضل الوضع على ماهو عليه، وخاب أمل المسلمين فيه، وفي خلافة بني العباس التي كانوا يعدونها سندا وملجئا لهم، فخذلتهم في أحلك الظروف. وظل أمراء المسلمين في الشرق مستكينيين للأمر الواقع الذي فرضته عليهم قوة أجنبية استعمارية غاشمة، تجثم في قلب بلادهم وتحتل أرضهم ومقدساتهم وتستخدم الدين شعارا لها، وظل هؤلاء الأمراء المنقسمين على أنفسهم – إلا من عصم الله منهم - يتلقون الصفعة تلو الصفعة على أيدي الفرنجة الصليبيين، وظلت القوة الفاعلة والكلمة العليا في هذه المنطقة لأولئك الغزاة المحتلين.
عماد الدين زنكي ينهض
وقد استمر الوضع كذلك، إلى أن ظهر الأتابك عماد الدين بن آق سنقر التركماني– والمعروف بـ" عماد الدين زنكي ( 477هـ - 540هـ ) " وهو من قادة الأتراك السلاجقة- والذي تسلم أتابكية الموصل عام 521هـ / 1127م، بأمر من الخليفة العباسي المسترشد بالله، وبترشيح من السلطان محمود السلجوقي، ابن السلطان محمد بن ملكشاه، الذي كان عماد الدين يحظى بثقته وتقديره، لما علم من شهامته وكفايته؛ فكان عماد الدين زنكي هو الذي تولى أحياء سنة الجهاد ورفع رايته من جديد بعد أن سقطت لأكثر من ثلاثة عقود.
ولم يكن طريق الجهاد مفروشا بالورود أمام هذا القائد المسلم البطل. فهو عندما تولى أتابكية الموصل وبدأ يمارس دوره العسكري والسياسي على الساحة الإسلامية بصورة فاعلة، كان الفرنجة الصليبون - بعد حملتهم الصليبية الأولى- قد رسخوا وجودهم وعززوا سلطانهم ووسعوا دائرة سيطرتهم على قلب بلاد المسلمين، وكان قد علا شأنهم وقويت شوكتهم فيها، فقد كانت إماراتهم الصليبية التي أنشأوها، قد أصبحت تشغل الساحل الشامي بطوله،وتسيطر على الأقاليم المجاورة له، ابتداء من طرسوس في أقصى الشمال حتى جنوب سهل فلسطين الساحلي في غزة وعسقلان، مرورا بأمهات المدن على الساحل الشرقي لبلاد الشام مثل إنطاكية وطرابلس وعكا وقيسارية وبيروت وصور وصيدا وغيرها. إضافة إلى مستعمرتهم الرئيسية وهي مملكة بيت المقدس والتي كانت تشغل معظم أراضي فلسطين، وعلى رأسها مدينة القدس. وكان الفرنجة الصليبيون من خلال هذه المملكة قد توغلوا في أعماق بلاد الشام فبسطوا نفوذهم على الكرك في شرقي نهر الأردن وعلى الشوبك والبتراء ووادي عربة في جنوب البحر الميت، وامتدت سيطرتهم لتصل إلى ميناء إيلات على خليج العقبة. وقد شكل احتلاهم لهذه المناطق تهديدا مستمرا لمواكب الحجاج المسلمين، ولقوافل التجار المسلمين إلى الحجاز، والأراضي المقدسة في مكة والمدينة، وأيضا قوافل التجار المسلمين المتجهة إلى مصر ( والتي أصبح هذا الطريق هو الممر الوحيد إليها من بلاد الشام بعد قطع الفرنجة الصليبيين للطريق الساحلي الذي يربط بين الشام ومصر ). وهذا فضلا عن توغل الفرنجة في أعماق بلاد الجزيرة من خلال إمارة الرها الصليبية، والتي راح خطرها يزداد ويتعاظم يوما بعد يوم – كما سنوضح ذلك لا حقا - .
ويمكن من خلال ما سبق القول أن الفرنجة الصليبيين كانوا - في ذلك التوقيت الذي برز فيه عماد الدين زنكي على الساحة الإسلامية- كانوا قد سيطروا على معظم بلاد الشام والجزيرة، ولم يكن ي**** عن سيطرتهم سوى عدد قليل من المدن الرئيسية في داخل بلاد الشام أهمها قواعد الشام الأربع: دمشق وحمص وحماة وحلب. ولكن – ومع استقلال هذه المدن – إلا أنها كانت عرضة للغارات والتهديدات الصليبية المتواصلة. كل ذلك من جهة.
ومن جهة أخرى فقد كان الأتابك عماد الدين زنكي محكوما ومقيدا في حركته وقراراته، سواء بمصالح السلطان السلجوقي أو الخليفة العباسي أو مراكز القوى الأ**** المنتشرة من حوله . ومعنى ذلك أن أي خطوة كان يخطوها كانت محسوبة عليه. وكانت هناك خطوط حمراء لا يمكن له تجاوزها وإلا اصطدم بهذا الطرف أو ذاك من تلك الأطراف التي ذكرناها. ولهذا كان لزاما على عماد الدين زنكي أن يهتم أولا بشئونه الداخلية وبناء قوته الذاتية، وأن يثبت أقدامه في أتابكيته، وقد استغرق ذلك منه عددا من السنوات، اضطر خلالها لخوض معركة حربية مع الخليفة العباسي المستظهر بالله سنة 526هـ/ 1132م ، وهي المعركة التي انتهت بهزيمته وأسر عدد كبير من قواته، وانسحابه إلى مدينة تكريت، والتي نزل فيها ضيفا معززا مكرما على نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه، واللذين ضمهما إلى خدمته– فيما بعد – ردا لجميلهما ، وأدخلهما إلى قلب الأحداث والتاريخ إلى جانبه، وسلمهما بعلبك حينما استولى عليها عام 534هـ.
ومع كل العقبات التي وقفت في وجه عماد الدين زنكي، فقد تمكن بفضل خبرته العسكرية، وكفاءته القيادية والإدارية، من توطيد سلطته في مدينة الموصل والأقاليم المجاورة لها، وأصبح سيد الجزيرة غير منازع، كما رسخ نفوذه في مدينة حلب ( 1128م) ثم في مدينة حماة بعد ذلك، وبذلك وحّد بين شمال العراق وشمال الشام وخطا الخطوة الأولى على طريق وحدة الصف – مع ما شاب بعض أعماله العسكرية – غفرالله له - من قسوة، والتي سجلها عليه المؤرخون. قال ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب: وكان زنكي ملكا عظيما وشجاعا وجبارا، كثير العظمة والتجبر، وهو مع ذلك يراعي أحوال الشرع وينقاد إليه، ويكرم أهل العلم، وبلغني أنه كان إذا قيل له: أما تخاف الله خاف من ذلك، وتصاغر في نفسه فأظهر الله تعالى سره المحمود في ولده محمود." أ.هـ
وفي غضون ذلك وبعده أخذ عماد الدين في مناجزة الفرنجة الصليبيين في الشام فانتصر عليهم في العديد من المعارك غير الحاسمة، كما انتزع منهم كثيرا من الحصون والقلاع من أهمها حصن الأثارب – بين حلب وإنطاكية - سنة 524هـ . وقلعة بعرين – القريبة من حماة – سنة 531هـ / 1136، وكان ذلك بعد معركة قاسية انتصر فيها عماد الدين على الفرنجة الصليبيين، وأسر خلالها ريموند، قائد جيش طرابلس. وكان عماد الدين في عام 529هـ، قد فتح معرة النعمان وكفر طاب. كما استطاع عماد الدين زنكي أن يرد جحافل الروم عن شيزر سنة 533هـ ، وأن يلحق بهم أفدح الخسائر. وكان له أثر عظيم في نصرة الإسلام، وكف عادية الفرنج ومهد لمن بعده فتح البلاد، بعد أن كان الفرنج قد ضايقوا مدينة حلب واستولوا على حصونها، وأخذوا المناصفة من المسلمين إلى بابها. وقد توج عماد الدين زنكي انتصاراته العسكرية الظافرة بتحرير مدينة الرها من الفرنجة الصليبين سنة 539هـ / 1144م، وهو ما سنسلط عليه الضوء في الفقرات اللاحقة باعتبار هذا الانتصار هو الحدث الأبرز والأهم في السجل الجهادي للأتابك عماد الدين زنكي، وفي مسار حركة الجهاد ضد الصليبيين عموما منذ قدومهم إلى الشرق الإسلامي، بما ترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على الجانبين: الفرنجي والإسلامي.
.
في ظل العواصف الهوجاء التي تعصف بأمتنا، والاحباطات التي يعاني منها شبابنا، في الوقت الراهن، أصبحنا بحاجة ماسة للعودة إلى تاريخنا، لا لكي نتناسى واقعنا المرير، ولا لكي نعزي أنفسنا بأمجادنا وانتصاراتنا التليدة، وإنما لكي نستخلص العبر والعظات من هذا التاريخ، ونأخذ الدروس المفيدة من سير القادة والفاتحين المسلمين السابقين وما سطروه من صفحات مشرقة وضاءة، فلا تنكسر إرادتنا، ولا تخور عزائمنا أمام التحديات الحالية، وليكون ذلك بداية لنهضة إسلامية شاملة نتجاوز من خلالها هذا الواقع الأليم الذي نعيشه، والذي تمر به أمتنا الإسلامية جمعاء.
ومن القادة الأبطال الذين يجدر بنا استعادة ذكراهم، عماد الدين زنكي، رائد حركة الجهاد الإسلامية ضد الفرنجة الصليبيين. ولكي تتضح لنا مكانة هذا القائد والبطل التركي المسلم، وأهمية الدور الذي لعبه في حركة الجهاد ضد الصليبيين، فإننا سنبدأ القصة من أولها:
الفرنجة الصليبون في الشرق
تعرضت الأمة الإسلامية، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي/ أواخر القرن الخامس الهجري، لأول عدوان عسكري خارجي، يغزوها في عقر دارها ويهدد وجودها ومصيرها، ألا وهو عدوان الفرنجة الصليبيين. وهم عبارة عن جماعات بشرية عدوانية ****ت من دول مختلفة في غرب أوروبا – وخاصة فرنسا – للاستيلاء على بلاد الشام والجزيرة، والاستيطان فيها، بدعوة ومباركة وتحريض الكنيسة الكاثوليكية، والبابا أوربان الثاني، وذلك لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وبذريعة تخليص الضريح المقدس في "أرض المسيح" من أيدي المسلمين " الكفار" وتأمين وصول الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة في فلسطين.
وهكذا اندفعت الجحافل الجرارة لهؤلاء الغزاة الفرنجة الصليبيين نحو الشرق، " وقطعوا ألاف الأميال، صوب قلب بلاد المسلمين، وأهلكوا الحرث والنسل في طريقهم، ولم يجدوا أمامهم قوة إسلامية رادعة، لا سيما بعد أن نجحوا في إحراز النصر على الأتراك السلاجقة في العام 1097م- أكبر القوى العسكرية الإسلامية آنذاك- وهو الانتصار الذي فتح أمامهم الطريق إلى آسيا الصغرى ـ الشام ـ وليكن لهم ما أرادوا – بالتالي- وهو الوصول إلى أرض اللبن والعسل، وهي أرض الشام والجزيرة بما فيها فلسطين – كما كانوا يطلقون عليها بناء على ما هو مذكور في كتابهم المقدس- . وقد استخدم البابا ورجل الكنيسة الكاثوليكية هذا الوصف ورددوه كثيرا على مسامع الناس في مدن فرنسا وايطاليا وألمانيا، وذلك خلال فترة التمهيد والإعداد للحروب الصليبية، لحشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين من مختلف التوجهات والمشارب، والزج بهم في الحرب ضد المسلمين، ومنحوهم صكوك الغفران التي يدخلون بها الجنة بزعمهم، فكان ذلك حافزا للكثير من المغامرين والمرتزقة والمهمشين واللقطاء واللصوص وغيرهم، للانخراط في تلك الحرب، لتحقيق أطماعهم الدنيوية ولإشباع رغباتهم الذاتية في تلك الأرض على حساب أهلها المسلمين، وذلك فضلا عن العامل الديني الذي ألمحنا إليه سابقا. والذي يأتي على رأس تلك العوامل جميعا.
وقد تمكن الفرنجة الصليبيون الغزاة في غضون عدد من السنوات من الاستيلاء على أجزاء واسعة من مدن شواطئ وأقاليم بلاد الشام والجزيرة، وأكدوا وجودهم وأهدافهم الاستعمارية الاستيطانية، بإنشاء العديد من الأمارات الصليبية في قلب بلاد المسلمين وأخصبها وأغناها، وهذا في الرها وإنطاكية وطرابلس وبيروت وعكا وصيدا وغيرها، فضلا عن مستعمرتهم الأساسية في القدس وفلسطين. وقد ضموا إلى كل إمارة أو مستعمرة ما يحيط بها من مدن وأقاليم، وعملوا على تأمين كل منها بسلسلة من القلاع والحصون القوية، ونضموا فيها الحاميات، وشحنوها بالمؤمن والسلاح، وبكل ما من شأنه أن يمكنها من الصمود لمدة طويلة في وجه أي هجوم إسلامي محتمل.
وبعد أن استتب وجودهم في تلك الإمارات والمستعمرات المغتصبة شرع الفرنجة الصليبيون في تطوير أعمالهم العدوانية وفي ممارسة أنشطة السلب والنهب ضد المدن والأقاليم والبلدات الإسلامية، التي لم تخضع لسيطرتهم، فاستحلوا لأنفسهم دماء أهلها وأموالهم، وقطع طرقهم، ونهب خيراتهم، وأذاقوهم لباس الذل والخوف، ولم يرعوا لهم عهدا ولا وعدا.
حال المسلمين وواقعهم السياسي
جاء احتلال الفرنجة الصليبيين للقدس ولبلاد الشام والجزيرة، في وقت كان يسود فيه التفكك والشقاق والتشرذم بين المسلمين في الشرق والتشرذم بين المسلمين في الشرق الإسلامي. وكانت تتقاسم أقاليم الشرق الإسلامي حينذاك خلافتان إسلاميتينا متناقضتان ومتصارعتان، وهما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، وكانت كل منهما غداة الهجمة الصليبية أضعف من الأ****. فأما الخلافة العباسية ( السنية ) في بغداد،- وهي الأقدم والأعرق وأيضا الممثلة للغالبية الساحقة من المسلمين- فكانت قد تحولت إلى رمز ديني معنوي، ولم يكن تحت يدها أية قوة عسكرية، وكان الخلفاء العباسيون يمارسون دورا شكليا فقط، ولم يكن لهم أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث خارج نطاق مدينة بغداد، وكانت الهيمنة الفعلية للأتراك السلاجقة الذين دخل الخلفاء العباسيون تحت وصايتهم طوعا منذ سنة (447هـ/1055م )، لدورهم في تخليص الخلافة من سيطرة البويهيين الشيعة المهينة والمذلة لها.
وأما الخلافة الفاطمية ( الإسماعيلية الشيعية )، في القاهرة فقد كانت هي الأخرى منهكة وضعيفة نتيجة الفتن والمشاكل والأزمات الداخلية التي عصفت بها، من جهة . ونتيجة لصراعاتها وحروبها المتواصلة والمكلفة مع الأتراك السلاجقة في الشام،لأسباب سياسية ومذهبية.من جهة أ****. وكانت الهيمنة الفعلية لمقاليد الأمور فيها قد آلت للجماليين – نسبة إلى بدر الدين الجمالي، أحد كبار القادة الفاطميين-. ولم يكن للفاطميين أو الجماليين شأن يذكر في مقاومة الفرنجة الصليبيين خاصة بعد تد*** أسطولهم الحربي وهزيهم البحرية في عسقلان سنة ( 517هـ / 1123م ) ومنذ ذلك الحين انكفأت الخلافة الفاطمية على نفسها وفقدت السيطرة على الأحداث التي حولها ولم تقم لها قائمة أبدا بعد ذلك.
كما أن الدولة السلجوقية والتي كانت وصية على الخلافة العباسية، كانت هي نفسها مفككة ومقسمة إلى إقطاعيات عسكرية منتشرة في الأناضول وفارس والشام والجزيرة. وكانت هذه الإقطاعيات قد فقدت أواصر الارتباط والوحدة فيما بينها، وكذلك زادت أعدادها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار ملكشاه بن ألب أرسلان سنة ( 485هـ، 1092م ) . فضلا عن استفحال الصراع على السلطة في البيت السلجوقي. وكان من أهم تلك الإقطاعيات العسكرية، في بلاد الشام والجزيرة، والتي لها خطوط مواجهة مباشرة مع الفرنجة الصليبيين: أتابكية دمشق وأتابكية الموصل، وكان بينهما وحولهما عدد من الإمارات والمدن والأسر المستقلة، وكان العداء هو الطابع المميز للعلاقة فيما بين هذه الأتابكيات والإمارات، ولم يكن أمراؤها يتفقون على أي رؤية أو خطة مشتركة لقتال الفرنجة الصليبيين الغزاة المحتلين، ولتطهير أرض الإسلام منهم، وهناك من أمراء المسلمين من مال لمهادنتهم وعقد الاتفاقيات معهم، اتقاء لشرهم، وتسليما بالأمر الواقع، وهذا ما فعله حكام دمشق، والذين دفعهم حرصهم على التمتع باستقلالهم وتخوفهم من نوايا زنكي، إلى محالفة الصليبيين ضد زنكي، كما أن بعض أولئك الأمراء المسلمين كانوا أسرع إلى الفرنجة الصليبيين وأقرب إليهم من إخوانهم حكام المسلمين، وأثناء ذلك ظهرت خيانات الخائنين، وانكشف تخاذل المتخاذلين، وتُرك العبء الأكبر من الجهاد على عاتق القوى المحلية التي كان يقودها العلماء العاملون، وغالبا ما كان يحدث ذلك أثناء حصار الفرنجة الصليبيين للمدن والقواعد الإسلامية. وأما من كان يقاتل من أمراء المسلمين فكان يقاتل دفاعا عن نفسه وعن سلطته، وربما للمحافظة على ماء الوجه، ولاتقاء لعنة التاريخ التي لا ترحم، ولا تحابي أحدا، أو لكي لا يخسر ما تبقى تحت يده من المدن والأقاليم الإسلامية.
وهناك بعض العلماء يمموا وجوههم شطر بغداد، دار الخلافة ليشرحوا ما حل ببلاد المسلمين في الشام والجزيرة على أيدي الفرنجة الصليبيين، ولحث خليفة المسلمين على التحرك والنهوض بمسئولياته والقيام بواجبه إزاء هذه النكبة. وقد ذكر هؤلاء العلماء الذين وقفوا بين يدي الخليفة العباسي صورا من من جرائم الفرنجة الصليبيين، وما ارتكبوه من مذابح جماعية في حق المسلمين الأبرياء، ومن سلب ونهب وتخريب وتد*** ما يشيب لفظاعتها ووحشيتها الولدان، وذلك في سائر المدن الإسلامية التي احتلوها أو مروا بها، مثل أنطاكية ومعرة النعمان وغيرهما، فضلا عن المذبحة المريعة التي أرتكبها الصليبيون غداة اقتحامهم لمدينة القدس في 23شعبان 492هـ ، الموافق 15يوليو 1099م ، والتي راح ضحيتها جميع سكانه المدينة من المسلمين والمسيحيين واليهود. ولكن ورغم كل ذلك فإن الخليفة العباسي لم ينهض أبدا للقيام بواجبه، وضل الوضع على ماهو عليه، وخاب أمل المسلمين فيه، وفي خلافة بني العباس التي كانوا يعدونها سندا وملجئا لهم، فخذلتهم في أحلك الظروف. وظل أمراء المسلمين في الشرق مستكينيين للأمر الواقع الذي فرضته عليهم قوة أجنبية استعمارية غاشمة، تجثم في قلب بلادهم وتحتل أرضهم ومقدساتهم وتستخدم الدين شعارا لها، وظل هؤلاء الأمراء المنقسمين على أنفسهم – إلا من عصم الله منهم - يتلقون الصفعة تلو الصفعة على أيدي الفرنجة الصليبيين، وظلت القوة الفاعلة والكلمة العليا في هذه المنطقة لأولئك الغزاة المحتلين.
عماد الدين زنكي ينهض
وقد استمر الوضع كذلك، إلى أن ظهر الأتابك عماد الدين بن آق سنقر التركماني– والمعروف بـ" عماد الدين زنكي ( 477هـ - 540هـ ) " وهو من قادة الأتراك السلاجقة- والذي تسلم أتابكية الموصل عام 521هـ / 1127م، بأمر من الخليفة العباسي المسترشد بالله، وبترشيح من السلطان محمود السلجوقي، ابن السلطان محمد بن ملكشاه، الذي كان عماد الدين يحظى بثقته وتقديره، لما علم من شهامته وكفايته؛ فكان عماد الدين زنكي هو الذي تولى أحياء سنة الجهاد ورفع رايته من جديد بعد أن سقطت لأكثر من ثلاثة عقود.
ولم يكن طريق الجهاد مفروشا بالورود أمام هذا القائد المسلم البطل. فهو عندما تولى أتابكية الموصل وبدأ يمارس دوره العسكري والسياسي على الساحة الإسلامية بصورة فاعلة، كان الفرنجة الصليبون - بعد حملتهم الصليبية الأولى- قد رسخوا وجودهم وعززوا سلطانهم ووسعوا دائرة سيطرتهم على قلب بلاد المسلمين، وكان قد علا شأنهم وقويت شوكتهم فيها، فقد كانت إماراتهم الصليبية التي أنشأوها، قد أصبحت تشغل الساحل الشامي بطوله،وتسيطر على الأقاليم المجاورة له، ابتداء من طرسوس في أقصى الشمال حتى جنوب سهل فلسطين الساحلي في غزة وعسقلان، مرورا بأمهات المدن على الساحل الشرقي لبلاد الشام مثل إنطاكية وطرابلس وعكا وقيسارية وبيروت وصور وصيدا وغيرها. إضافة إلى مستعمرتهم الرئيسية وهي مملكة بيت المقدس والتي كانت تشغل معظم أراضي فلسطين، وعلى رأسها مدينة القدس. وكان الفرنجة الصليبيون من خلال هذه المملكة قد توغلوا في أعماق بلاد الشام فبسطوا نفوذهم على الكرك في شرقي نهر الأردن وعلى الشوبك والبتراء ووادي عربة في جنوب البحر الميت، وامتدت سيطرتهم لتصل إلى ميناء إيلات على خليج العقبة. وقد شكل احتلاهم لهذه المناطق تهديدا مستمرا لمواكب الحجاج المسلمين، ولقوافل التجار المسلمين إلى الحجاز، والأراضي المقدسة في مكة والمدينة، وأيضا قوافل التجار المسلمين المتجهة إلى مصر ( والتي أصبح هذا الطريق هو الممر الوحيد إليها من بلاد الشام بعد قطع الفرنجة الصليبيين للطريق الساحلي الذي يربط بين الشام ومصر ). وهذا فضلا عن توغل الفرنجة في أعماق بلاد الجزيرة من خلال إمارة الرها الصليبية، والتي راح خطرها يزداد ويتعاظم يوما بعد يوم – كما سنوضح ذلك لا حقا - .
ويمكن من خلال ما سبق القول أن الفرنجة الصليبيين كانوا - في ذلك التوقيت الذي برز فيه عماد الدين زنكي على الساحة الإسلامية- كانوا قد سيطروا على معظم بلاد الشام والجزيرة، ولم يكن ي**** عن سيطرتهم سوى عدد قليل من المدن الرئيسية في داخل بلاد الشام أهمها قواعد الشام الأربع: دمشق وحمص وحماة وحلب. ولكن – ومع استقلال هذه المدن – إلا أنها كانت عرضة للغارات والتهديدات الصليبية المتواصلة. كل ذلك من جهة.
ومن جهة أخرى فقد كان الأتابك عماد الدين زنكي محكوما ومقيدا في حركته وقراراته، سواء بمصالح السلطان السلجوقي أو الخليفة العباسي أو مراكز القوى الأ**** المنتشرة من حوله . ومعنى ذلك أن أي خطوة كان يخطوها كانت محسوبة عليه. وكانت هناك خطوط حمراء لا يمكن له تجاوزها وإلا اصطدم بهذا الطرف أو ذاك من تلك الأطراف التي ذكرناها. ولهذا كان لزاما على عماد الدين زنكي أن يهتم أولا بشئونه الداخلية وبناء قوته الذاتية، وأن يثبت أقدامه في أتابكيته، وقد استغرق ذلك منه عددا من السنوات، اضطر خلالها لخوض معركة حربية مع الخليفة العباسي المستظهر بالله سنة 526هـ/ 1132م ، وهي المعركة التي انتهت بهزيمته وأسر عدد كبير من قواته، وانسحابه إلى مدينة تكريت، والتي نزل فيها ضيفا معززا مكرما على نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه، واللذين ضمهما إلى خدمته– فيما بعد – ردا لجميلهما ، وأدخلهما إلى قلب الأحداث والتاريخ إلى جانبه، وسلمهما بعلبك حينما استولى عليها عام 534هـ.
ومع كل العقبات التي وقفت في وجه عماد الدين زنكي، فقد تمكن بفضل خبرته العسكرية، وكفاءته القيادية والإدارية، من توطيد سلطته في مدينة الموصل والأقاليم المجاورة لها، وأصبح سيد الجزيرة غير منازع، كما رسخ نفوذه في مدينة حلب ( 1128م) ثم في مدينة حماة بعد ذلك، وبذلك وحّد بين شمال العراق وشمال الشام وخطا الخطوة الأولى على طريق وحدة الصف – مع ما شاب بعض أعماله العسكرية – غفرالله له - من قسوة، والتي سجلها عليه المؤرخون. قال ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب: وكان زنكي ملكا عظيما وشجاعا وجبارا، كثير العظمة والتجبر، وهو مع ذلك يراعي أحوال الشرع وينقاد إليه، ويكرم أهل العلم، وبلغني أنه كان إذا قيل له: أما تخاف الله خاف من ذلك، وتصاغر في نفسه فأظهر الله تعالى سره المحمود في ولده محمود." أ.هـ
وفي غضون ذلك وبعده أخذ عماد الدين في مناجزة الفرنجة الصليبيين في الشام فانتصر عليهم في العديد من المعارك غير الحاسمة، كما انتزع منهم كثيرا من الحصون والقلاع من أهمها حصن الأثارب – بين حلب وإنطاكية - سنة 524هـ . وقلعة بعرين – القريبة من حماة – سنة 531هـ / 1136، وكان ذلك بعد معركة قاسية انتصر فيها عماد الدين على الفرنجة الصليبيين، وأسر خلالها ريموند، قائد جيش طرابلس. وكان عماد الدين في عام 529هـ، قد فتح معرة النعمان وكفر طاب. كما استطاع عماد الدين زنكي أن يرد جحافل الروم عن شيزر سنة 533هـ ، وأن يلحق بهم أفدح الخسائر. وكان له أثر عظيم في نصرة الإسلام، وكف عادية الفرنج ومهد لمن بعده فتح البلاد، بعد أن كان الفرنج قد ضايقوا مدينة حلب واستولوا على حصونها، وأخذوا المناصفة من المسلمين إلى بابها. وقد توج عماد الدين زنكي انتصاراته العسكرية الظافرة بتحرير مدينة الرها من الفرنجة الصليبين سنة 539هـ / 1144م، وهو ما سنسلط عليه الضوء في الفقرات اللاحقة باعتبار هذا الانتصار هو الحدث الأبرز والأهم في السجل الجهادي للأتابك عماد الدين زنكي، وفي مسار حركة الجهاد ضد الصليبيين عموما منذ قدومهم إلى الشرق الإسلامي، بما ترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على الجانبين: الفرنجي والإسلامي.
.
gulben turkmen- Çavuş
- عدد الرسائل : 104
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 31/03/2008
رد: عماد الدين زنكي، الملك الغازي، ***ّر مدينة الرّهـا
أسباب تحرير مدينة الرها
الرّها مدينة قديمة مشهورة، أسمها بالرومية أديسا، وهي من أمهات المدن والحواضر المدن والحواضر المعدودة، في إقليم الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات" وسكانها تنوّعت أصولهم, ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية سريانية، منتمية إلى الآراميين، وقد اعتنقوا المسيحية, وتعتبر مدينةالرهاأهم أمكنتهم الدينية والتاريخية.
وتقع الرها بين الموصل والشام، إلى الشمال من مدينة حلب، وأقرب المدن إليها حرّان في جنوبها، فتحها الصحابي الجليل عياض بن غنم صلحا سنة 17هـ " ودخل أهل سائر الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرهاء من الصلح" وهي اليوم تحت سيادة الدولة التركية وتُدعى ( أروفا ).
وقال في الروض المعطار: الرها - بضم الراء والمد- مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. والرها مدينة رومية عليها سور حجارة، تدخل منها أنهار وت**** عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران، (...) وليس في جميع بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه، وعنابها على قدر التفاح، وقد ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها لأنها مبنية بخشب العناب، وليس بمدينة الرها ربض، والفرات منها في ناحية المغرب على مسيرة يومين، وفي ناحية الشمال على مسيرة يوم،(...) ويمتاز أهل الرها من أهل تلك الناحية بجمال الصور وكمال الخلق. " أ.هـ
أحتل الصليبيون الرها سنة 1097م أي بعد أربعة قرون ونيف من دخولها ضمن أراضي الخلافةالإسلامية، " مستفيدين من تعثّر الجبهة الإسلامية, المنطوية على انقسامات حادة في ذلك الوقت. "ولأهميتها الإستراتيجية والاقتصادية والدينية، فقد أنشأ الصليبون فيها إمارة صليبية، كانت هي أولى إماراتهم في الشرق. " ولم يكد يمرّ عامان على تأسيسالرُها،حتى أصبحأ***ها ومؤسسها (بلدوين) ملكا على مملكة بيت المقدس, فتولى أمرها بلدوين دي بورغ Beldwin de Burgh حتى سنة 512هـ/1118م, ثم تبعه جوسلين الأول, فجوسلين الثاني حتى سنة 539هـ/1144م،وهو تاريخ تحرير الأتابك عماد الدين زنكي لها وإعادتها إلى الحظيرة الإسلامية.
وكانت إمارة الرها الصليبية هذه هي الأكبر والأخطر بعد مملكة بيت المقدس، وكان وجه الخطورة بالنسبة لإمارة الرها يتمثل في كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين، وليس على الساحل الشامي، كمعظم الأمارات الصليبية، وكان وجودها في ذلك المكان داخل بلاد المسلمين قد جعلها تشكل حدا فاصلا بين السلاجقة الأتراك في كل من إيران والأناضول، من جهة، وبين العراق والشام من جهة أ****. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فقد كانت هذه الإمارة الصليبية تشكل خطرا كبيرا على مدينة الموصل وما يتبعها مثل نصيبين ورأس العين وماردين وحران والرقة، وكذلك بالنسبة لديار بكر وما يتبعها في أعالي دجلة، وكانت في نفس الوقت تشكل تهديدا لمدينة حلب ولشمال الشام كله، لاسيما مع وجود إمارة إنطاكية بإزاء مدينة حلب على الساحل الشامي. هذا فضلا عن ما يمثلهُ قربها من العراق من تهديد للخلافة الإسلامية، والتي تعتبر رمز الوحدة بين المسلمين.
كما كانت – من جهة ثالثة – مصدر خطر وقلق كبيرين على الطريق البري الممتد من مدينة الموصل إلى مدينة حلب. وكان جوسلين – كونت الرها – ونتيجة لوجود إمارته في ذلك الموقع الحساس يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين القريبة من الرها، ولقطع الطرق وممارسة أعمال السلب والنهب والتخريب والتد***، بصورة مستمرة، ولم يكن يردعه رادع أو يمنعه مانع من ذلك. كما كان الكونت جوسلين قد استغل انشغال الأتابك عماد الدين زنكي، بقتال الفرنجة في جنوب بلاد الشام، وقام بتوسيع حدود إمارته، فبسط سيطرته على مناطق كثيرة في غرب الفرات.
ولم يكن الأتابك عماد الدين زنكي غافلا عما كان يقوم به جوسلين – كونت الرها – وقواته من تحرشات ومن استفزازات، ولكنه ظل يترقب الفرصة المناسبة لضرب هذه الأمارة الصليبية وتقليم أظافرها وتكسير أنيابها، وقد كان هذا الخيار أشدّ الحاحا بعد تزايد خطر الكونت جوسلين واطراد أعماله العدوانية ضد المسلمين وممتلكاتهم وكثرة شكاوي المسلمين منه، إلى الأتابك عماد الدين زنكي.
ومن الواضح أن الأتابك عماد الدين زنكي لم يكن له السكوت عن هذه الإمارة الصليبية إلى الأبد، والتي كانت بمثابة شوكة في خاصرته، وتهديدا مباشرا لإمارته وحجرة عثرة في طريقه يحول بينه وبين التفرغ لقتال الفرنجة الصليبيين في جنوب بلاد الشام حيث تتركز قوتهم الرئيسية. فماذا فعل عماد يا ترى؟
خطة تحرير مدينة الرها
وضع الأتابك عماد الدين زنكي مسألة تحرير مدينة الرها نصب عينيه وأعد لذلك خطة محكمة، أحاطها بالتكتم الشديد والسرية التامة، ولم يفصح عنها إلا لمن يثق بهم جدا من قادته المقربين إليه، وكذا لم يُظهر عماد الدين أي سوء نية تجاه جوسلين – كونت الرها – وكل ذلك لضمان نجاح الخطة وعدم فشلها. ذلك أن جوسلين – كونت الرها – كان إلى جانب شهرته بالغدر والقسوة والأطماع الواسعة – كان معروفا أيضا بالدهاء والشجاعة والفروسية، ومتميزا بالكفاءة القيادية والإدارية، ولو أنه علم – أو حتى شعر – بما يدبره له عماد الدين زنكي لا ستعد له ولا استنفر قوى الصليبيين المنتشرة من حوله، وحشدها إلى جانبه، ولظل متأهبا على الدوام لصد أي خطر ولردع أي هجوم على إمارته قد يقوم به عماد الدين، وكان حينئذ يتعذر على جيش الأتابك عماد الدين زنكي – بطبيعة الحال - مواجهة قوى الفرنجة مجتمعة، كما يتعذر عليه اقتحام قلعة المدينة المعروفة بقوتها وحصانتها الشديدة ، والتي قد يلجأ الكونت جوسلين للتحصن فيها بعد شحنها بالمؤن والأطعمة والعتاد وبصورة تؤدي إلى صمودها لفترة طويلة، وهو الأمر الذي لم يكن في صالح الأتابك عماد الدين زنكي، لأن أجزاء أ**** من بلاده ستكون أثناء ذلك عرضة للغزو من قبل الفرنجة، أو حتى غيرهم من حكام المسلمين الذين يناصبونه العداء. ولذلك فقد قضت الخطة التي أعدها عماد الدين زنكي لتحرير مدينة الرها بمباغتتها على حين غرة، وفي وقت لم يحسب له صاحبها الكونت جوسلين، ولا أحد غيره من الفرنجة الصليبيين حسابا، مع استخدام وسائل الضغط كافة على المدينة, وإرغامها علىالاستسلام قبل تدخّل القوى الفرنجية. وهذا ما حدث بالضبط.
ففي نوفمبر 1144م، **** الأتابك عماد الدين زنكي بقواته من مدينة الموصل، متظاهرا أنه يريد غزو ديار بكر الواقعة في منطقة أعالي دجلة، للاستيلاء عليها وضمها إلى أتابكية الموصل، بعد أن كان قد حيل بينه وبينها في العام السابق. ولعل هذا التوقيت كان له أهميته ومغزاه لدى عماد الدين زنكي، ويبدو أنه كان يتابع بصورة سرية تحركات الكونت جوسلين ومواعيد مغادرته لمقر إمارته. وقد يكون سبب اختياره لذلك التوقيت بالذات هو علمه بأنه موعد مغادرة الكونت جوسلين قاعدة إمارته والتوجه إلى إمارة إنطاكية، لحضور احتفالات عيد الميلاد التي تُقام فيها سنويا – كما كانت قد جرت العادة في ذلك العهد- بما يتخلل هذه المناسبة عند النصارى من ضروب اللهو والعربدة والصخب.
وفعلا فمع خروج عماد الدين على رأس جيشه من مدينة الموصل، غادر الكونت جوسلين مدينة الرها متوجها إلى إنطاكية، وهو في تمام الاطمئنان على مدينته نظرا لتصوره أن عماد الدين زنكي منشغل عنه، ولما علم عماد الدين بأمر مغادرة جوسلين للرها، أرسل مباشرة إلى أ*** حماة يطلب منه توجيه قواته إلى مدينة الرها على وجه السرعة. وما لبث عماد الدين حتى انحرف بقواته غربا فأطبق الجيشان ( جيش حماة وجيش الموصل ) على مدينة الرها في وقتٍ واحد وذلك في 28نوفمبر1144م ، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في العمل لفتح ثغرات في سور المدينة تحت غطاء الهجمات التي كانت تشنها القوات الإسلامية على حامية المدينة . وقد استمر الحصار أربعة أسابيع. وكان الكونت جوسلين أثناء ذلك قد علم بما تتعرض له قاعدة إمارته، فعاد أدراجه إليها ولكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها، ولجأ إلى قرية مجاورة على الضفة الغربية للفرات- تدعى "تل باشر" ومكث فيها منتظرا وصول النجدة والمدد من إمارة إنطاكية ومن مملكة بيت المقدس واللتان كان قد بعث إليهما يستنفرهما. إلا أن الجيوش الصليبية وصلت في الوقت الضائع أي بعد أن كانت الجيوش الإسلامية قد اقتحمت المدينة ودخلتها عنوة بما في ذلك اقتحام قلعتها الحصينة. وقد كان للمباغتة دورها الحاسم في سرعة سقوط قلعة المدينة العصية، بيد قوات الأتابك عماد الدين زنكي، والتي داهمتهما في وقت لم تكن فيه حاميتها مستعدة للصمود لحصار طويل.
وهكذا دخل عماد الدين زنكي مدينة الرها وأمر جنوده برد كل ما غنموه وما أخذوه من أهلها، وسار في أهلها بالعدل والسيرة الحسنة، ومنع من التعرض لكنائسهم وعبادتهم .وضرب بذلك نموذجا رائعا للفاتح المسلم في سماحته وتواضعه وعفته. وعاد الآذان يصدح من جديد في هذه المدينة بعد أن توقف حوالي خمسين عاما بسبب الاحتلال الصليبي، ولم يترك عماد الدين المدينة إلا بعد أن عادت الطمأنينة إلى أهلها، وأعاد ترميم أسوارها وتحصينها، ونظم حامية للدفاع عنها وزودها بكل ما تحتاجه من مؤن وعتاد ووسائل دفاع ومقاومة.
نتائج تحرير مدينة الرها
استطاع عماد الدين زنكي بعد تحرير هذه المدينة الهامة من تصفية الكيان الصليبي شرقي الفرات فاستولى على ما كان للصليبيين من حصون ومعاقل. كما تمكن من تحرير مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت تابعة لإمارة الرها في غرب الفرات، كما تم تأمين الطريق الرئيسية الممتدة من الموصل إلى حلب والطرق المتفرعة عنها، من غارات الفرنجة الصليبيين، فأمن المسلمون على أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم في تلك الأنحاء بعد طول قلقٍ ومعاناة.
وقد كان تحرير مدينة الرها أعظم انتصار حققه المسلمون على الفرنجة الصليبيين، منذ أن جاءوا إلى الشرق الإسلامي سنة 1097م، فانتعشت آمال المسلمين بهذا الانتصار وارتفعت حالتهم المعنوية، وأرتفع في نفوسهم حب الجهاد والتعاون والتضامن لمقاومة الغزاة وطردهم من ديار المسلمين، لاسيما وأن هذا الانتصار قد برهن على قوة المسلمين وما يتوافر لديهم من إمكانيات تتيح لهم إلحاق الهزائم بالفرنجة الصلبيين، والنيل منهم.
كما أن هذا الانتصار قد عزز من سمعة ومكانة الأتابك عماد الدين زنكي، وأعلى من شأنه بين أمراء المسلمين ودعم موقفه في جهاده ضد الفرنجة الصليبيين في بلاد الشام. فهذا الخليفة العباسي يبتهج بهذا الانتصار فيرسل وفدا إلى عماد الدين محملا بالهدايا الثمينة ويمنحه لقب ( الملك الغازي )، تشريفا له وإيذانا بإطلاق يده في مواجهة الصليبيين.
ومن جهة أ**** فقد هزّ تحريرالرهاجبهة الفرنج، في الصميم، وأثار ذلك قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوربي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية، والتي كانت أنطاكية هي العنوان الرئيسي لها نتيجة لكونها أصبحت مكشوفة وأمام المواجهة المباشرة مع المسلمين، باعتبار أن مدينة الرها ال***رة ، كانت خطها الدفاعي الحصين. وقد اعتبر بعض المؤرخين الأوروبيين تحرير الرها ، بداية النهاية للمملكة اللاتينية في الشرق أي مملكة بيت المقدس الصليبية.
بيد أنه لم يكتب للأتابك عماد الدين زنكي مواصلة مشواره الجهادي، والتصدي لهذه الحملة، فقد لقي حتفه غيلة، في 6 ربيع الآخر540هـ، الموافق 15 من سبتمبر1146م، على يد كبير حراسه، وكان فيما قيل من أتباع الحركة الباطنية، التي كانت قد بدأت تنتعش في بلاد الشام، كنتيجة للصراعات داخل الدولة الفاطمية، في القاهرة، وكان ذلك عندما كان عماد الدين زنكي يحاصر قلعة "جعبر"، على نهر الفرات، والتي كانت على وشك السقوط بيده، وكان ذلك بعد مرور عام وبضعة أشهر على تحريره لمدينة الرها. وبعد استشهاده حاول الصليبيون استعادتها مرة أ**** إلا أن ابنه الملك الصالح نور الدين محمود – المعروف بالشهيد – والذي خلفه على إمارة حلب، حال بينهم وبينها، وكان نور الدين هذا من خيرة حكام المسلمين، وأصلحهم واتقاهم، بعد عمر بن عبد العزيز ، كما ذكر ابن كثير وغيره ، وكان نور الدين فوق صلاحه وتقواه ، أكثر من والده ، عزما وحماسة وهمة للجهاد في سبيل الله، ولطرد الفرنجة الصليبيين، الجاثمين في بلاد المسلمين، وكان له شرف التصدي للحملة الصليبية الثانية. وفي عهده تغير الموقف تغيرا حاسما لصالح المسلمين، وخاب أمل المرجفين والذين راهنوا على انقسام مُلك الأتابك عماد الدين زنكي وتوقف عجلة الجهاد بعد وفاته.
الرّها مدينة قديمة مشهورة، أسمها بالرومية أديسا، وهي من أمهات المدن والحواضر المدن والحواضر المعدودة، في إقليم الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات" وسكانها تنوّعت أصولهم, ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية سريانية، منتمية إلى الآراميين، وقد اعتنقوا المسيحية, وتعتبر مدينةالرهاأهم أمكنتهم الدينية والتاريخية.
وتقع الرها بين الموصل والشام، إلى الشمال من مدينة حلب، وأقرب المدن إليها حرّان في جنوبها، فتحها الصحابي الجليل عياض بن غنم صلحا سنة 17هـ " ودخل أهل سائر الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرهاء من الصلح" وهي اليوم تحت سيادة الدولة التركية وتُدعى ( أروفا ).
وقال في الروض المعطار: الرها - بضم الراء والمد- مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. والرها مدينة رومية عليها سور حجارة، تدخل منها أنهار وت**** عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران، (...) وليس في جميع بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه، وعنابها على قدر التفاح، وقد ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها لأنها مبنية بخشب العناب، وليس بمدينة الرها ربض، والفرات منها في ناحية المغرب على مسيرة يومين، وفي ناحية الشمال على مسيرة يوم،(...) ويمتاز أهل الرها من أهل تلك الناحية بجمال الصور وكمال الخلق. " أ.هـ
أحتل الصليبيون الرها سنة 1097م أي بعد أربعة قرون ونيف من دخولها ضمن أراضي الخلافةالإسلامية، " مستفيدين من تعثّر الجبهة الإسلامية, المنطوية على انقسامات حادة في ذلك الوقت. "ولأهميتها الإستراتيجية والاقتصادية والدينية، فقد أنشأ الصليبون فيها إمارة صليبية، كانت هي أولى إماراتهم في الشرق. " ولم يكد يمرّ عامان على تأسيسالرُها،حتى أصبحأ***ها ومؤسسها (بلدوين) ملكا على مملكة بيت المقدس, فتولى أمرها بلدوين دي بورغ Beldwin de Burgh حتى سنة 512هـ/1118م, ثم تبعه جوسلين الأول, فجوسلين الثاني حتى سنة 539هـ/1144م،وهو تاريخ تحرير الأتابك عماد الدين زنكي لها وإعادتها إلى الحظيرة الإسلامية.
وكانت إمارة الرها الصليبية هذه هي الأكبر والأخطر بعد مملكة بيت المقدس، وكان وجه الخطورة بالنسبة لإمارة الرها يتمثل في كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين، وليس على الساحل الشامي، كمعظم الأمارات الصليبية، وكان وجودها في ذلك المكان داخل بلاد المسلمين قد جعلها تشكل حدا فاصلا بين السلاجقة الأتراك في كل من إيران والأناضول، من جهة، وبين العراق والشام من جهة أ****. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فقد كانت هذه الإمارة الصليبية تشكل خطرا كبيرا على مدينة الموصل وما يتبعها مثل نصيبين ورأس العين وماردين وحران والرقة، وكذلك بالنسبة لديار بكر وما يتبعها في أعالي دجلة، وكانت في نفس الوقت تشكل تهديدا لمدينة حلب ولشمال الشام كله، لاسيما مع وجود إمارة إنطاكية بإزاء مدينة حلب على الساحل الشامي. هذا فضلا عن ما يمثلهُ قربها من العراق من تهديد للخلافة الإسلامية، والتي تعتبر رمز الوحدة بين المسلمين.
كما كانت – من جهة ثالثة – مصدر خطر وقلق كبيرين على الطريق البري الممتد من مدينة الموصل إلى مدينة حلب. وكان جوسلين – كونت الرها – ونتيجة لوجود إمارته في ذلك الموقع الحساس يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين القريبة من الرها، ولقطع الطرق وممارسة أعمال السلب والنهب والتخريب والتد***، بصورة مستمرة، ولم يكن يردعه رادع أو يمنعه مانع من ذلك. كما كان الكونت جوسلين قد استغل انشغال الأتابك عماد الدين زنكي، بقتال الفرنجة في جنوب بلاد الشام، وقام بتوسيع حدود إمارته، فبسط سيطرته على مناطق كثيرة في غرب الفرات.
ولم يكن الأتابك عماد الدين زنكي غافلا عما كان يقوم به جوسلين – كونت الرها – وقواته من تحرشات ومن استفزازات، ولكنه ظل يترقب الفرصة المناسبة لضرب هذه الأمارة الصليبية وتقليم أظافرها وتكسير أنيابها، وقد كان هذا الخيار أشدّ الحاحا بعد تزايد خطر الكونت جوسلين واطراد أعماله العدوانية ضد المسلمين وممتلكاتهم وكثرة شكاوي المسلمين منه، إلى الأتابك عماد الدين زنكي.
ومن الواضح أن الأتابك عماد الدين زنكي لم يكن له السكوت عن هذه الإمارة الصليبية إلى الأبد، والتي كانت بمثابة شوكة في خاصرته، وتهديدا مباشرا لإمارته وحجرة عثرة في طريقه يحول بينه وبين التفرغ لقتال الفرنجة الصليبيين في جنوب بلاد الشام حيث تتركز قوتهم الرئيسية. فماذا فعل عماد يا ترى؟
خطة تحرير مدينة الرها
وضع الأتابك عماد الدين زنكي مسألة تحرير مدينة الرها نصب عينيه وأعد لذلك خطة محكمة، أحاطها بالتكتم الشديد والسرية التامة، ولم يفصح عنها إلا لمن يثق بهم جدا من قادته المقربين إليه، وكذا لم يُظهر عماد الدين أي سوء نية تجاه جوسلين – كونت الرها – وكل ذلك لضمان نجاح الخطة وعدم فشلها. ذلك أن جوسلين – كونت الرها – كان إلى جانب شهرته بالغدر والقسوة والأطماع الواسعة – كان معروفا أيضا بالدهاء والشجاعة والفروسية، ومتميزا بالكفاءة القيادية والإدارية، ولو أنه علم – أو حتى شعر – بما يدبره له عماد الدين زنكي لا ستعد له ولا استنفر قوى الصليبيين المنتشرة من حوله، وحشدها إلى جانبه، ولظل متأهبا على الدوام لصد أي خطر ولردع أي هجوم على إمارته قد يقوم به عماد الدين، وكان حينئذ يتعذر على جيش الأتابك عماد الدين زنكي – بطبيعة الحال - مواجهة قوى الفرنجة مجتمعة، كما يتعذر عليه اقتحام قلعة المدينة المعروفة بقوتها وحصانتها الشديدة ، والتي قد يلجأ الكونت جوسلين للتحصن فيها بعد شحنها بالمؤن والأطعمة والعتاد وبصورة تؤدي إلى صمودها لفترة طويلة، وهو الأمر الذي لم يكن في صالح الأتابك عماد الدين زنكي، لأن أجزاء أ**** من بلاده ستكون أثناء ذلك عرضة للغزو من قبل الفرنجة، أو حتى غيرهم من حكام المسلمين الذين يناصبونه العداء. ولذلك فقد قضت الخطة التي أعدها عماد الدين زنكي لتحرير مدينة الرها بمباغتتها على حين غرة، وفي وقت لم يحسب له صاحبها الكونت جوسلين، ولا أحد غيره من الفرنجة الصليبيين حسابا، مع استخدام وسائل الضغط كافة على المدينة, وإرغامها علىالاستسلام قبل تدخّل القوى الفرنجية. وهذا ما حدث بالضبط.
ففي نوفمبر 1144م، **** الأتابك عماد الدين زنكي بقواته من مدينة الموصل، متظاهرا أنه يريد غزو ديار بكر الواقعة في منطقة أعالي دجلة، للاستيلاء عليها وضمها إلى أتابكية الموصل، بعد أن كان قد حيل بينه وبينها في العام السابق. ولعل هذا التوقيت كان له أهميته ومغزاه لدى عماد الدين زنكي، ويبدو أنه كان يتابع بصورة سرية تحركات الكونت جوسلين ومواعيد مغادرته لمقر إمارته. وقد يكون سبب اختياره لذلك التوقيت بالذات هو علمه بأنه موعد مغادرة الكونت جوسلين قاعدة إمارته والتوجه إلى إمارة إنطاكية، لحضور احتفالات عيد الميلاد التي تُقام فيها سنويا – كما كانت قد جرت العادة في ذلك العهد- بما يتخلل هذه المناسبة عند النصارى من ضروب اللهو والعربدة والصخب.
وفعلا فمع خروج عماد الدين على رأس جيشه من مدينة الموصل، غادر الكونت جوسلين مدينة الرها متوجها إلى إنطاكية، وهو في تمام الاطمئنان على مدينته نظرا لتصوره أن عماد الدين زنكي منشغل عنه، ولما علم عماد الدين بأمر مغادرة جوسلين للرها، أرسل مباشرة إلى أ*** حماة يطلب منه توجيه قواته إلى مدينة الرها على وجه السرعة. وما لبث عماد الدين حتى انحرف بقواته غربا فأطبق الجيشان ( جيش حماة وجيش الموصل ) على مدينة الرها في وقتٍ واحد وذلك في 28نوفمبر1144م ، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في العمل لفتح ثغرات في سور المدينة تحت غطاء الهجمات التي كانت تشنها القوات الإسلامية على حامية المدينة . وقد استمر الحصار أربعة أسابيع. وكان الكونت جوسلين أثناء ذلك قد علم بما تتعرض له قاعدة إمارته، فعاد أدراجه إليها ولكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها، ولجأ إلى قرية مجاورة على الضفة الغربية للفرات- تدعى "تل باشر" ومكث فيها منتظرا وصول النجدة والمدد من إمارة إنطاكية ومن مملكة بيت المقدس واللتان كان قد بعث إليهما يستنفرهما. إلا أن الجيوش الصليبية وصلت في الوقت الضائع أي بعد أن كانت الجيوش الإسلامية قد اقتحمت المدينة ودخلتها عنوة بما في ذلك اقتحام قلعتها الحصينة. وقد كان للمباغتة دورها الحاسم في سرعة سقوط قلعة المدينة العصية، بيد قوات الأتابك عماد الدين زنكي، والتي داهمتهما في وقت لم تكن فيه حاميتها مستعدة للصمود لحصار طويل.
وهكذا دخل عماد الدين زنكي مدينة الرها وأمر جنوده برد كل ما غنموه وما أخذوه من أهلها، وسار في أهلها بالعدل والسيرة الحسنة، ومنع من التعرض لكنائسهم وعبادتهم .وضرب بذلك نموذجا رائعا للفاتح المسلم في سماحته وتواضعه وعفته. وعاد الآذان يصدح من جديد في هذه المدينة بعد أن توقف حوالي خمسين عاما بسبب الاحتلال الصليبي، ولم يترك عماد الدين المدينة إلا بعد أن عادت الطمأنينة إلى أهلها، وأعاد ترميم أسوارها وتحصينها، ونظم حامية للدفاع عنها وزودها بكل ما تحتاجه من مؤن وعتاد ووسائل دفاع ومقاومة.
نتائج تحرير مدينة الرها
استطاع عماد الدين زنكي بعد تحرير هذه المدينة الهامة من تصفية الكيان الصليبي شرقي الفرات فاستولى على ما كان للصليبيين من حصون ومعاقل. كما تمكن من تحرير مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت تابعة لإمارة الرها في غرب الفرات، كما تم تأمين الطريق الرئيسية الممتدة من الموصل إلى حلب والطرق المتفرعة عنها، من غارات الفرنجة الصليبيين، فأمن المسلمون على أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم في تلك الأنحاء بعد طول قلقٍ ومعاناة.
وقد كان تحرير مدينة الرها أعظم انتصار حققه المسلمون على الفرنجة الصليبيين، منذ أن جاءوا إلى الشرق الإسلامي سنة 1097م، فانتعشت آمال المسلمين بهذا الانتصار وارتفعت حالتهم المعنوية، وأرتفع في نفوسهم حب الجهاد والتعاون والتضامن لمقاومة الغزاة وطردهم من ديار المسلمين، لاسيما وأن هذا الانتصار قد برهن على قوة المسلمين وما يتوافر لديهم من إمكانيات تتيح لهم إلحاق الهزائم بالفرنجة الصلبيين، والنيل منهم.
كما أن هذا الانتصار قد عزز من سمعة ومكانة الأتابك عماد الدين زنكي، وأعلى من شأنه بين أمراء المسلمين ودعم موقفه في جهاده ضد الفرنجة الصليبيين في بلاد الشام. فهذا الخليفة العباسي يبتهج بهذا الانتصار فيرسل وفدا إلى عماد الدين محملا بالهدايا الثمينة ويمنحه لقب ( الملك الغازي )، تشريفا له وإيذانا بإطلاق يده في مواجهة الصليبيين.
ومن جهة أ**** فقد هزّ تحريرالرهاجبهة الفرنج، في الصميم، وأثار ذلك قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوربي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية، والتي كانت أنطاكية هي العنوان الرئيسي لها نتيجة لكونها أصبحت مكشوفة وأمام المواجهة المباشرة مع المسلمين، باعتبار أن مدينة الرها ال***رة ، كانت خطها الدفاعي الحصين. وقد اعتبر بعض المؤرخين الأوروبيين تحرير الرها ، بداية النهاية للمملكة اللاتينية في الشرق أي مملكة بيت المقدس الصليبية.
بيد أنه لم يكتب للأتابك عماد الدين زنكي مواصلة مشواره الجهادي، والتصدي لهذه الحملة، فقد لقي حتفه غيلة، في 6 ربيع الآخر540هـ، الموافق 15 من سبتمبر1146م، على يد كبير حراسه، وكان فيما قيل من أتباع الحركة الباطنية، التي كانت قد بدأت تنتعش في بلاد الشام، كنتيجة للصراعات داخل الدولة الفاطمية، في القاهرة، وكان ذلك عندما كان عماد الدين زنكي يحاصر قلعة "جعبر"، على نهر الفرات، والتي كانت على وشك السقوط بيده، وكان ذلك بعد مرور عام وبضعة أشهر على تحريره لمدينة الرها. وبعد استشهاده حاول الصليبيون استعادتها مرة أ**** إلا أن ابنه الملك الصالح نور الدين محمود – المعروف بالشهيد – والذي خلفه على إمارة حلب، حال بينهم وبينها، وكان نور الدين هذا من خيرة حكام المسلمين، وأصلحهم واتقاهم، بعد عمر بن عبد العزيز ، كما ذكر ابن كثير وغيره ، وكان نور الدين فوق صلاحه وتقواه ، أكثر من والده ، عزما وحماسة وهمة للجهاد في سبيل الله، ولطرد الفرنجة الصليبيين، الجاثمين في بلاد المسلمين، وكان له شرف التصدي للحملة الصليبية الثانية. وفي عهده تغير الموقف تغيرا حاسما لصالح المسلمين، وخاب أمل المرجفين والذين راهنوا على انقسام مُلك الأتابك عماد الدين زنكي وتوقف عجلة الجهاد بعد وفاته.
gulben turkmen- Çavuş
- عدد الرسائل : 104
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 31/03/2008
مواضيع مماثلة
» مرسوم نور الدين زنكي على الباب الصغير
» الملك العظيم قطز
» عماد الدين نسيمي، مؤسس الشعر التركماني
» الأ*** الغازي عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية
» احمد شوقي يمدح الغازي مصطفى كمال اتا تورك
» الملك العظيم قطز
» عماد الدين نسيمي، مؤسس الشعر التركماني
» الأ*** الغازي عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية
» احمد شوقي يمدح الغازي مصطفى كمال اتا تورك
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى