قصة بقلم : نوال السعداوي
+2
gizem
yachar kamal
6 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
قصة بقلم : نوال السعداوي
[size=24]اتمنى من الجميع المتابعة
من نافذة الطائرة أطل على الغابة الصغيرة يسمونها غابة ديوك، عصفت بها رياح المحيط الأطلنطى والهوريكين، خلع عنها الشتاء أوراقها، أشجار البلوط تلمع عارية تحت الشمس، رؤوسها حليقة منتظمة فى صفوف، كرؤوس الجنود فى المحافل والمارشات العسكرية، أشجار الأرز المثلثة الرأس تومض أوراقها بدوائر الضوء، الثالوث المقدس فى عيد ميلاد المسيح، يسمونه الكريسماس، نحن فى اليوم الأخير من الشهر الأخير فى عام 1996، وأنا فى طريق العودة إلى الوطن بعد سنوات المنفى، أشجار الصنوبر بسيقانها النحيفة الرشيقة تتمايل مع الهواء مثل راقصات الباليه، من وراء النافذة الصغيرة المستديرة لوحت بيدى أودعهم، أربعة من طالباتى وإثنان من الطلبة، جاءوا نيابة عن الفصل إلى المطار، عيونهم تلمع فيها الابتسامات والدموع، ينادوننى بإسم دكتر ساداوى، كريس أصغرهم سنا، عمره عشرين عاما، عيناه زرقاوتان بلون مياه المحيط، أكثرهم إنتباها فى فصل الإبداع والتمرد، طويل ممشوق بشرته بيضاء ملوحة بالشمس، فى حفل الوداع بالأمس عزف أغنية على الجيتار من تأليفه وتلحينه:
خذينى معك إلى الشاطئ الإفريقى.
يا ابنة النيل عيناك ساحرتان.
الليل أقضيه حبيس الانترنيت.
وفى الغابة أجرى كالحصان.
أذناى مسدودتان بالسماعات.
رأسى مشدود بالأسلاك.
عيناى تنظران ولا تريان.
آه يا أستاذة التمرد والإبداع.
أريد أن أطير معك فى الحلم.
إلى حيث أعثر على نفسى من جديد.
إلى جوار كريس كانت تجلس كارولين، تتريض معى أحيانا فى الغابة، تفضل الرسم على الكتابة، فى طفولتها كانت مثلى تطير فى الحلم، لم تحلم اختها بالطيران أبدا، سألتنى كارولين، لماذا يعجز بعض الناس عن الطيران فى النوم، أهدتنى لوحة رسمت فيها نفسها محلقة فى الجو ، تحرك ذراعاها فى الهواء وتطير كما كنت أفعل فى أحلامى بدون أجنحة ، وهى فتاة أمريكية ولدت فى مدينة نيويورك، عيناها زرقاوتان نفاذتان، بشرتها سمراء، ولدتها أمها فى حى هارلم الفقير، أبوها أسود اللون جندوه فى حرب فيتنام ولم يعد، حصلت على منحة تفوق وجاءت إلى جامعة ديوك تدرس الرسم والإبداع، تشتغل فى الأسبوع ثلاثة أيام، جرسونة فى مطعم، تنفق على نفسها، وأمها فى هارلم تشتغل عاملة فى مصنع للبلاستيك، تنفق على البيت وأطفالها الأربعة.
قالت كارولين وهى تودعنى، سأدخر ثمن التذكرة إلى القاهرة وأزورك يا نوال، أصبحت تنادينى بإسمى، رغم فارق العمر نتبادل الحديث كأنما من عمر واحد، فى طفولتها كانت تذهب مع أمها إلى الكنسية، كانت تظن أن القسيس هو الله أو المسيح إبن الله، ذهبت إليه لتعترف بذنوبها. كانت فى العاشرة من عمرها. سرقت من زميلة لها فى المدرسة قلما ملونا. كانت تحب الرسم ولم تكن تملك ثمن القلم الملون. سمعت فى الكنيسة أن السرقة حرام، وأن الاعتراف ضرورى لمسح الذنوب. تسللت من وراء أمها وذهبت إلى القسيس. طلب منها أن تركع وتعترف. أغمضت عينها واعترفت بالسرقة. ربت القسيس بيده على كتفها وقال: غفر الله لك يا كارولين، ثم امتدت يده من كتفها إلى صدرها وبطنها، همس فى أذنها لا تخافى ولا تصرخى أنت فتاة مؤمنة يحبها الله. لكن كارولين صرخت من الألم، عرفت أمها ما حدث، تكتمت الخبر، خرجت كارولين من الحادث سليمة، لم تحمل بالمسيح مثل العذراء مريم، وفقدت إيمانها بالله والكتاب المقدس.
أول يوم دخلت إلى الفصل سألت الطالبات والطلبة، لماذا إخترتم هذا الفصل بالذات؟ قال كريس، أنا أدرس الموسيقى، كنت متمردا منذ الطفولة، أريد أن أعرف العلاقة بين التمرد والابداع. وقالت كارولين، أنا أدرس الرسم، فى الطفولة كنت أحلم بالطيران، أختى لم تكن تطير فى الحلم، أريد أن أعرف لماذا يعجز بعض الناس عن الطيران فى الحلم وقالت طالبة هندية إسمها مايا، قرأت روايتك "فردوس" وتغيرت حياتى، فوجئت بإسمك ضمن الأستاذات فى جامعة ديوك، جئت إلى هنا لأكون طالبة فى فصلك. بشرتها سمراء، عيناها سوداوتان يكسوهما البريق، شعرها أسود غزير، فى نهاية العام الدراسى بدأت تكتب رواية طويلة قبل أن تعود إلى الهند.
كان شريف قد سبقنى فى السفر إلى القاهرة. قال لى، يمكننا العودة وقد زال الخطر إلى حد كبير، جاءتنا رسائل تقول أن قائمة الموت لم تعد هناك والأحوال فى مصر أكثر هدوءا، سافر شريف، وبقيت فى جامعة ديوك ثلاثة شهور أخرى حتى انتهى العام الدراسى.
الطائرة تحلق فوق المحيط الأطلسى متجهة شمالا نحو نيويورك. أول مرة ركبت الطائرة منذ سبعة وثلاثين عاما. منذ الطفولة كان هناك حلم يتكرر. أننى أطير فى الجو، أحرك ذراعى كالجناحين وأشعر بجسمى ينفصل عن الأرض ويحلق فى السماء. كأنما أمتطى جوادا له جناحان، أخترق السحب أجدنى فى عوالم أخرى وبلاد لا أعرفها، أتلفت حولى فى ذعر، أرى الأرض بعيدة راقدة فى الظلمة، ومصباح صغير فى نافذة، وطفلة مؤرقة فى الليل ترمق الطائرة فى السماء، تلمع فى الخضم الأسود كالنجمة.
تشهق جدتى حين احكى لها الحلم.
- هذه ليست أحلام البنات.
- وماذا تحلم البنات يا جدتى؟
- يحلمن بالعريس وفستان الزفاف.
لكنى لم أحلم أبدا بالعريس أو فستان الزفاف. وفى كل عيد يشترى لى أبى فستانا جديدا ويشترى لأخى طائرة صغيرة لها زمبلك، كان أخى يلوى الزمبلك بأصابعه حتى ينكسر، يقذف الطائرة فى الهواء، لكنها لا تطير، تسقط إلى الأرض، كنت أجلس إلى جوار حطام الطائرة ثقيلة القلب، أجمع أشلاءها وأعيد تركيبها لتصبح طائرة من جديد، أركب الزمبلك مكانه أسفل البطن، أحركه ناحية اليمين دورة واحدة أو دورتين، فجأة تتحرك الطائرة وتحلق فى الغرفة. أصفق بيدى الإثنتين وأصرخ بالفرح. تسمعنى جدتى أو إحدى النسوة من عائلة أمى أو أبى. أرى تكشيرة الغضب فوق وجهها. تشد الطائرة من يدى وتلقى بها على الأرض، ثم تصرخ:
- تعالى المطبخ مافيش وقت للعب!
كنت أحب اللعب بالطائرة عن تقشير البصل والثوم، أهمس لأمى بأحلامى، كانت أمى فى طفولتها تحلم بالطيران مثلى، لكنهم أمسكوها كما تمسك الفرخة قبل الذبح، وساقوها إلى حفل الزفاف تحت إيقاع الطبول.
منذ ركبت الطائرة لأول مرة عام 1963، لم أتوقف عن السفر، سبعة وثلاثون عاما رأيت فيها بلاد العالم، كتبت الجزء الأول من رحلاتى فى كتاب صدر منذ خمسة عشر عاما. لم أنشر الجزء الثانى بعد. ربما أفعل ذلك بعد الإنتهاء من هذا الكتاب الجديد.
الطائرة تحلق بى فوق المحيط الأطلسى متجهة نحو الجنوب بعد الهبوط فى نيويورك. جاءت المضيفة الأمريكية تجر العربة عليها المشروبات، انحنت باسمة وسألتنى. ماذا تشربين يا سيدتى؟ قلت: جين تونيك. تذكرت صديقتى بطة منذ ثمانية وثلاثين عاما حين سمعت منها لأول مرة كلمة "جين تونيك". كان ذلك بعد موت أبى فى فبراير 1959. أصبح الجين تونيك مشروبى المفضل، يساعدنى قليلا على الإسترخاء، أنسى قليلا مشاكل الحياة، أتحرر من مخاوفى الراقدة فى قشرة المخ، مخاوف صغيرة مكبوتة منذ الطفولة، رغم عشقى للطيران كنت أخاف من ركوب الطائرة، أراها تسقط وتتحول إلى حطام. إهتزت الطائرة قليلا وأنا أقول "جين تونيك"، سمعت الصوت ينبعث من الميكرفون يقول: أربطوا الأحزمة، نمر ببعض المطبات الهوائية. كم مرة سمعت هذا النداء خلال رحلاتى فى العالم على مدى سبعة وثلاثين عاما؟ مئات المرات آلاف المرات، وفى كل مرة لا يحدث شئ، لا تسقط الطائرة، مع ذلك ما أن أسمع النداء حتى أتصور أن الطائرة سوف تسقط حتما هذه المرة.
أخذت كأسين من الجين تونيك، تبعتهما بزجاجة نبيذ أحمر بوردو، سرى الدفء فى أوصالى، شعرت بالنشوة، شحنة من الحياة تدفقت فى عقلى وجسدى، تلاشى الخوف من سقوط الطائرة، جاءت المضيفة الأمريكية مرة أخرى بالمشروبات، كانت ابتسامتها مشرقة كالشمس، بدت أجمل امرأة رأيتها فى حياتى، قالت بصوت رقيق، ماذا تشربين قبل العشاء يا سيدتى الجميلة، رنت كلمة جميلة فى أذنى كالموسيقى. منذ الطفولة لم يكن أحد فى عائلة أمى أو أبى يقول عنى جميلة. كنت أسمع أحيانا كلمة ذكية، لكن كلمة جميلة لم يكن ينطقها أحد، إلا فى وصف واحدة من أخواتى اللاتى ورثن بشرة أمى البيضاء، وأصابعها الناعمة البضة، واستدارات جسمها الممتلئ، وعيناها العسليتان الوادعتان، وصوتها الرقيق. كانت هذه هى مقاييس الجمال الأنثوى، أما أنا فقد ورثت بشرة أبى السمراء، القامة الطويلة النحيفة، العينان السوداوتان المرفوعتان لا يطرف لهما جفن. "تندب فيهما رصاصة بلغة جدتى والدة أمى"
فى المقعد المجاور لى بالطائرة كان هناك رجل، صعد من نيويورك لم أنتبه إليه إلا بعد الجين تونيك والنبيذ الأحمر. كان يرشف النبيذ على مهل مع حبات من الفسدق، يقرأ فى جريدة الجارديان، ملامحه من الجانب تبدو مألوفة، هذا الأنف المرتفع فى كبرياء يشبه أنف أبى، هذه الجبهة العريضة تشبه جبهة شريف، هذا الشعر الأبيض الغزير أراه فى المرآة كل يوم، بشرته مزيج من السمرة والحمرة، رغم الخطوط الغائرة قليلا حول الفم والأنف تبدو بشرته مشدودة بلا تجاعيد، هذا الوجه رأيته من قبل، ربما فوق الشاشة، يكاد يشبه جريجورى بيك، هذه الوسامة الطبيعية غير الذكورية، هذا المزيج من الشباب والكهولة والطفولة، الجسم القوى الممشوق مع بياض الشعر واستقرار الملامح، عيناه يكسوهما بريق أشبه بالجنون وهدوء مثل العقلاء والحكماء من الفلاسفة فى التاريخ، مزيج عجيب لا أدرى أهى ملامحه الحقيقة أم هو خيالى الجامح وأنا أطير فى السماء أرشف الجين تونيك والنبيذ الأحمر.
رأيته يرمقنى بطرف عين. تظاهرت أننى لا أراه. ربما كان يتأمل شعرى الأبيض الغزير مع بشرتى السمراء الملوحة بالشمس. ربما لمح البريق الأسود فى عينى وأنا أبتسم للمضيفة وأقول: زجاجة أخرى من النبيذ وقليل من الفسدق يا سيدتى. إبتسمت المضيفة ووضعت أمامى زجاجة البوردو وصحن ملىء بالفسدق والبندق. سمعت صوت أسنانى تقرقش بشهية الطفلة، كنت جائعة، أتشمم رائحة العشاء من غرفة الأكل والمضيفة ترص الصوانى فوق العربة. جاءنى صوته بعد قليل سمعته بوضوح رغم أزيز الطائرة.
- إلى أين أنت ذاهبة؟
- إلى القاهرة وأنت؟
- إلى لندن.
- هل أنت إحدى نجمات السينما؟ ملامحك مألوفة تماما، كأنما رأيتك فوق الشاشة، لا أذكر إسم الفيلم ولا المخرج، أهو فيلينى أو ستانلى كو بريك؟
ضحكت بصوت لم أسمعه بأذنى منذ تسعة وثلاثين عاما، كان ذلك فى صيف عام 1959، بعد موت أبى بخمسة شهور، قرأ المخرج صلاح أبو سيف روايتى "مذكرات طبيبة"، جاءنى فى زيارة إلى البيت، كان يريد إخراج الرواية كفيلم سينمائى، ثم قال لى قبل أن ينصرف: إيه رأيك تمثلى إنتى دور الدكتورة فى الفيلم.
ضحكت يومها وقلت: لا يمكن يا أستاذ صلاح، ليه يا دكتورة نوال؟ عندك وجه فوتوجينيك وعندك موهبة كمان، قلت، موهبة فى الكتابة وليس التمثيل، قال صلاح أبو سيف، الموهبة الفنية هى الموهبة، فى الكتابة فى الموسيقى فى التمثيل، على العموم فكرى فى الموضوع، حاتصل بيكى بالتليفون بعد أسبوع.
كانت مواعيد صلاح أبو سيف دقيقة. جاءنى صوته بعد أسبوع بالضبط يسألنى عبر الأسلاك:
- رأيك إيه يا دكتورة نوال؟
- رأيى إن الرقابة حترفض الفيلم.
- أيوه، لكن ممكن نغير بعض المشاهد فى السيناريو، كل المخرجين بيعملوا كده.
- لكن إذا غيرنا حاجة فى الرواية حتبقى رواية تانية وليست مذكرات طبيبة.
- يمكن أقدر أفوت الرواية من الرقابة، لكن قررتى إيه بخصوص التمثيل؟
تابع
ابو جيفارا
ا
من نافذة الطائرة أطل على الغابة الصغيرة يسمونها غابة ديوك، عصفت بها رياح المحيط الأطلنطى والهوريكين، خلع عنها الشتاء أوراقها، أشجار البلوط تلمع عارية تحت الشمس، رؤوسها حليقة منتظمة فى صفوف، كرؤوس الجنود فى المحافل والمارشات العسكرية، أشجار الأرز المثلثة الرأس تومض أوراقها بدوائر الضوء، الثالوث المقدس فى عيد ميلاد المسيح، يسمونه الكريسماس، نحن فى اليوم الأخير من الشهر الأخير فى عام 1996، وأنا فى طريق العودة إلى الوطن بعد سنوات المنفى، أشجار الصنوبر بسيقانها النحيفة الرشيقة تتمايل مع الهواء مثل راقصات الباليه، من وراء النافذة الصغيرة المستديرة لوحت بيدى أودعهم، أربعة من طالباتى وإثنان من الطلبة، جاءوا نيابة عن الفصل إلى المطار، عيونهم تلمع فيها الابتسامات والدموع، ينادوننى بإسم دكتر ساداوى، كريس أصغرهم سنا، عمره عشرين عاما، عيناه زرقاوتان بلون مياه المحيط، أكثرهم إنتباها فى فصل الإبداع والتمرد، طويل ممشوق بشرته بيضاء ملوحة بالشمس، فى حفل الوداع بالأمس عزف أغنية على الجيتار من تأليفه وتلحينه:
خذينى معك إلى الشاطئ الإفريقى.
يا ابنة النيل عيناك ساحرتان.
الليل أقضيه حبيس الانترنيت.
وفى الغابة أجرى كالحصان.
أذناى مسدودتان بالسماعات.
رأسى مشدود بالأسلاك.
عيناى تنظران ولا تريان.
آه يا أستاذة التمرد والإبداع.
أريد أن أطير معك فى الحلم.
إلى حيث أعثر على نفسى من جديد.
إلى جوار كريس كانت تجلس كارولين، تتريض معى أحيانا فى الغابة، تفضل الرسم على الكتابة، فى طفولتها كانت مثلى تطير فى الحلم، لم تحلم اختها بالطيران أبدا، سألتنى كارولين، لماذا يعجز بعض الناس عن الطيران فى النوم، أهدتنى لوحة رسمت فيها نفسها محلقة فى الجو ، تحرك ذراعاها فى الهواء وتطير كما كنت أفعل فى أحلامى بدون أجنحة ، وهى فتاة أمريكية ولدت فى مدينة نيويورك، عيناها زرقاوتان نفاذتان، بشرتها سمراء، ولدتها أمها فى حى هارلم الفقير، أبوها أسود اللون جندوه فى حرب فيتنام ولم يعد، حصلت على منحة تفوق وجاءت إلى جامعة ديوك تدرس الرسم والإبداع، تشتغل فى الأسبوع ثلاثة أيام، جرسونة فى مطعم، تنفق على نفسها، وأمها فى هارلم تشتغل عاملة فى مصنع للبلاستيك، تنفق على البيت وأطفالها الأربعة.
قالت كارولين وهى تودعنى، سأدخر ثمن التذكرة إلى القاهرة وأزورك يا نوال، أصبحت تنادينى بإسمى، رغم فارق العمر نتبادل الحديث كأنما من عمر واحد، فى طفولتها كانت تذهب مع أمها إلى الكنسية، كانت تظن أن القسيس هو الله أو المسيح إبن الله، ذهبت إليه لتعترف بذنوبها. كانت فى العاشرة من عمرها. سرقت من زميلة لها فى المدرسة قلما ملونا. كانت تحب الرسم ولم تكن تملك ثمن القلم الملون. سمعت فى الكنيسة أن السرقة حرام، وأن الاعتراف ضرورى لمسح الذنوب. تسللت من وراء أمها وذهبت إلى القسيس. طلب منها أن تركع وتعترف. أغمضت عينها واعترفت بالسرقة. ربت القسيس بيده على كتفها وقال: غفر الله لك يا كارولين، ثم امتدت يده من كتفها إلى صدرها وبطنها، همس فى أذنها لا تخافى ولا تصرخى أنت فتاة مؤمنة يحبها الله. لكن كارولين صرخت من الألم، عرفت أمها ما حدث، تكتمت الخبر، خرجت كارولين من الحادث سليمة، لم تحمل بالمسيح مثل العذراء مريم، وفقدت إيمانها بالله والكتاب المقدس.
أول يوم دخلت إلى الفصل سألت الطالبات والطلبة، لماذا إخترتم هذا الفصل بالذات؟ قال كريس، أنا أدرس الموسيقى، كنت متمردا منذ الطفولة، أريد أن أعرف العلاقة بين التمرد والابداع. وقالت كارولين، أنا أدرس الرسم، فى الطفولة كنت أحلم بالطيران، أختى لم تكن تطير فى الحلم، أريد أن أعرف لماذا يعجز بعض الناس عن الطيران فى الحلم وقالت طالبة هندية إسمها مايا، قرأت روايتك "فردوس" وتغيرت حياتى، فوجئت بإسمك ضمن الأستاذات فى جامعة ديوك، جئت إلى هنا لأكون طالبة فى فصلك. بشرتها سمراء، عيناها سوداوتان يكسوهما البريق، شعرها أسود غزير، فى نهاية العام الدراسى بدأت تكتب رواية طويلة قبل أن تعود إلى الهند.
كان شريف قد سبقنى فى السفر إلى القاهرة. قال لى، يمكننا العودة وقد زال الخطر إلى حد كبير، جاءتنا رسائل تقول أن قائمة الموت لم تعد هناك والأحوال فى مصر أكثر هدوءا، سافر شريف، وبقيت فى جامعة ديوك ثلاثة شهور أخرى حتى انتهى العام الدراسى.
الطائرة تحلق فوق المحيط الأطلسى متجهة شمالا نحو نيويورك. أول مرة ركبت الطائرة منذ سبعة وثلاثين عاما. منذ الطفولة كان هناك حلم يتكرر. أننى أطير فى الجو، أحرك ذراعى كالجناحين وأشعر بجسمى ينفصل عن الأرض ويحلق فى السماء. كأنما أمتطى جوادا له جناحان، أخترق السحب أجدنى فى عوالم أخرى وبلاد لا أعرفها، أتلفت حولى فى ذعر، أرى الأرض بعيدة راقدة فى الظلمة، ومصباح صغير فى نافذة، وطفلة مؤرقة فى الليل ترمق الطائرة فى السماء، تلمع فى الخضم الأسود كالنجمة.
تشهق جدتى حين احكى لها الحلم.
- هذه ليست أحلام البنات.
- وماذا تحلم البنات يا جدتى؟
- يحلمن بالعريس وفستان الزفاف.
لكنى لم أحلم أبدا بالعريس أو فستان الزفاف. وفى كل عيد يشترى لى أبى فستانا جديدا ويشترى لأخى طائرة صغيرة لها زمبلك، كان أخى يلوى الزمبلك بأصابعه حتى ينكسر، يقذف الطائرة فى الهواء، لكنها لا تطير، تسقط إلى الأرض، كنت أجلس إلى جوار حطام الطائرة ثقيلة القلب، أجمع أشلاءها وأعيد تركيبها لتصبح طائرة من جديد، أركب الزمبلك مكانه أسفل البطن، أحركه ناحية اليمين دورة واحدة أو دورتين، فجأة تتحرك الطائرة وتحلق فى الغرفة. أصفق بيدى الإثنتين وأصرخ بالفرح. تسمعنى جدتى أو إحدى النسوة من عائلة أمى أو أبى. أرى تكشيرة الغضب فوق وجهها. تشد الطائرة من يدى وتلقى بها على الأرض، ثم تصرخ:
- تعالى المطبخ مافيش وقت للعب!
كنت أحب اللعب بالطائرة عن تقشير البصل والثوم، أهمس لأمى بأحلامى، كانت أمى فى طفولتها تحلم بالطيران مثلى، لكنهم أمسكوها كما تمسك الفرخة قبل الذبح، وساقوها إلى حفل الزفاف تحت إيقاع الطبول.
منذ ركبت الطائرة لأول مرة عام 1963، لم أتوقف عن السفر، سبعة وثلاثون عاما رأيت فيها بلاد العالم، كتبت الجزء الأول من رحلاتى فى كتاب صدر منذ خمسة عشر عاما. لم أنشر الجزء الثانى بعد. ربما أفعل ذلك بعد الإنتهاء من هذا الكتاب الجديد.
الطائرة تحلق بى فوق المحيط الأطلسى متجهة نحو الجنوب بعد الهبوط فى نيويورك. جاءت المضيفة الأمريكية تجر العربة عليها المشروبات، انحنت باسمة وسألتنى. ماذا تشربين يا سيدتى؟ قلت: جين تونيك. تذكرت صديقتى بطة منذ ثمانية وثلاثين عاما حين سمعت منها لأول مرة كلمة "جين تونيك". كان ذلك بعد موت أبى فى فبراير 1959. أصبح الجين تونيك مشروبى المفضل، يساعدنى قليلا على الإسترخاء، أنسى قليلا مشاكل الحياة، أتحرر من مخاوفى الراقدة فى قشرة المخ، مخاوف صغيرة مكبوتة منذ الطفولة، رغم عشقى للطيران كنت أخاف من ركوب الطائرة، أراها تسقط وتتحول إلى حطام. إهتزت الطائرة قليلا وأنا أقول "جين تونيك"، سمعت الصوت ينبعث من الميكرفون يقول: أربطوا الأحزمة، نمر ببعض المطبات الهوائية. كم مرة سمعت هذا النداء خلال رحلاتى فى العالم على مدى سبعة وثلاثين عاما؟ مئات المرات آلاف المرات، وفى كل مرة لا يحدث شئ، لا تسقط الطائرة، مع ذلك ما أن أسمع النداء حتى أتصور أن الطائرة سوف تسقط حتما هذه المرة.
أخذت كأسين من الجين تونيك، تبعتهما بزجاجة نبيذ أحمر بوردو، سرى الدفء فى أوصالى، شعرت بالنشوة، شحنة من الحياة تدفقت فى عقلى وجسدى، تلاشى الخوف من سقوط الطائرة، جاءت المضيفة الأمريكية مرة أخرى بالمشروبات، كانت ابتسامتها مشرقة كالشمس، بدت أجمل امرأة رأيتها فى حياتى، قالت بصوت رقيق، ماذا تشربين قبل العشاء يا سيدتى الجميلة، رنت كلمة جميلة فى أذنى كالموسيقى. منذ الطفولة لم يكن أحد فى عائلة أمى أو أبى يقول عنى جميلة. كنت أسمع أحيانا كلمة ذكية، لكن كلمة جميلة لم يكن ينطقها أحد، إلا فى وصف واحدة من أخواتى اللاتى ورثن بشرة أمى البيضاء، وأصابعها الناعمة البضة، واستدارات جسمها الممتلئ، وعيناها العسليتان الوادعتان، وصوتها الرقيق. كانت هذه هى مقاييس الجمال الأنثوى، أما أنا فقد ورثت بشرة أبى السمراء، القامة الطويلة النحيفة، العينان السوداوتان المرفوعتان لا يطرف لهما جفن. "تندب فيهما رصاصة بلغة جدتى والدة أمى"
فى المقعد المجاور لى بالطائرة كان هناك رجل، صعد من نيويورك لم أنتبه إليه إلا بعد الجين تونيك والنبيذ الأحمر. كان يرشف النبيذ على مهل مع حبات من الفسدق، يقرأ فى جريدة الجارديان، ملامحه من الجانب تبدو مألوفة، هذا الأنف المرتفع فى كبرياء يشبه أنف أبى، هذه الجبهة العريضة تشبه جبهة شريف، هذا الشعر الأبيض الغزير أراه فى المرآة كل يوم، بشرته مزيج من السمرة والحمرة، رغم الخطوط الغائرة قليلا حول الفم والأنف تبدو بشرته مشدودة بلا تجاعيد، هذا الوجه رأيته من قبل، ربما فوق الشاشة، يكاد يشبه جريجورى بيك، هذه الوسامة الطبيعية غير الذكورية، هذا المزيج من الشباب والكهولة والطفولة، الجسم القوى الممشوق مع بياض الشعر واستقرار الملامح، عيناه يكسوهما بريق أشبه بالجنون وهدوء مثل العقلاء والحكماء من الفلاسفة فى التاريخ، مزيج عجيب لا أدرى أهى ملامحه الحقيقة أم هو خيالى الجامح وأنا أطير فى السماء أرشف الجين تونيك والنبيذ الأحمر.
رأيته يرمقنى بطرف عين. تظاهرت أننى لا أراه. ربما كان يتأمل شعرى الأبيض الغزير مع بشرتى السمراء الملوحة بالشمس. ربما لمح البريق الأسود فى عينى وأنا أبتسم للمضيفة وأقول: زجاجة أخرى من النبيذ وقليل من الفسدق يا سيدتى. إبتسمت المضيفة ووضعت أمامى زجاجة البوردو وصحن ملىء بالفسدق والبندق. سمعت صوت أسنانى تقرقش بشهية الطفلة، كنت جائعة، أتشمم رائحة العشاء من غرفة الأكل والمضيفة ترص الصوانى فوق العربة. جاءنى صوته بعد قليل سمعته بوضوح رغم أزيز الطائرة.
- إلى أين أنت ذاهبة؟
- إلى القاهرة وأنت؟
- إلى لندن.
- هل أنت إحدى نجمات السينما؟ ملامحك مألوفة تماما، كأنما رأيتك فوق الشاشة، لا أذكر إسم الفيلم ولا المخرج، أهو فيلينى أو ستانلى كو بريك؟
ضحكت بصوت لم أسمعه بأذنى منذ تسعة وثلاثين عاما، كان ذلك فى صيف عام 1959، بعد موت أبى بخمسة شهور، قرأ المخرج صلاح أبو سيف روايتى "مذكرات طبيبة"، جاءنى فى زيارة إلى البيت، كان يريد إخراج الرواية كفيلم سينمائى، ثم قال لى قبل أن ينصرف: إيه رأيك تمثلى إنتى دور الدكتورة فى الفيلم.
ضحكت يومها وقلت: لا يمكن يا أستاذ صلاح، ليه يا دكتورة نوال؟ عندك وجه فوتوجينيك وعندك موهبة كمان، قلت، موهبة فى الكتابة وليس التمثيل، قال صلاح أبو سيف، الموهبة الفنية هى الموهبة، فى الكتابة فى الموسيقى فى التمثيل، على العموم فكرى فى الموضوع، حاتصل بيكى بالتليفون بعد أسبوع.
كانت مواعيد صلاح أبو سيف دقيقة. جاءنى صوته بعد أسبوع بالضبط يسألنى عبر الأسلاك:
- رأيك إيه يا دكتورة نوال؟
- رأيى إن الرقابة حترفض الفيلم.
- أيوه، لكن ممكن نغير بعض المشاهد فى السيناريو، كل المخرجين بيعملوا كده.
- لكن إذا غيرنا حاجة فى الرواية حتبقى رواية تانية وليست مذكرات طبيبة.
- يمكن أقدر أفوت الرواية من الرقابة، لكن قررتى إيه بخصوص التمثيل؟
تابع
ابو جيفارا
ا
عدل سابقا من قبل yachar kamal في الجمعة ديسمبر 12, 2008 6:03 am عدل 1 مرات (السبب : لط)
yachar kamal- Ast çavuş
- عدد الرسائل : 87
الموقع : http://alhor.net
العائلة التركمانية : oğuz Begdili
تاريخ التسجيل : 15/04/2008
متابعة
خلال ذلك الأسبوع أخذت رأى الصديقات بطة وسامية وصفية، ضحكت بطة وقالت خذينى معك يا نوال طول عمرى أحلم إنى أكون نجمة سينمائية، ومطت سامية بوزها فى وجهى وقالت: تمثيل إيه وكلام فارغ إيه يا نوال دى حاجات غير محترمة فى بلادنا، وقالت صفية، أنا متأكدة إن الرقابة حترفض الرواية، وتبقى المشكلة محلولة.
كان ذلك فى يوليو 1959، مصر تتأرجح بين اليسار واليمين والوسط والإخوان المسلمين، أعوان عبد الناصر يضربون أى رأى لا يدين بالولاء والطاعة. الرقابة على الكتب والأفلام والصحف وكل شئ. رفضت الرقابة رواية مذكرات طبيبة. حاول صلاح أبو سيف مرة أخرى بعد عامين، لم ينجح فى الحصول على الموافقة، حاول مرة ثالثة عام 1966، ومرة رابعة عام 1972، ثم سمعت صوته اليائس عبر الأسلاك يقول: المشكلة ليست فى الرواية يا دكتورة، المشكلة فى إسم نوال السعداوى.
- ماله الأسم يا أستاذ صلاح؟
- بيقولوا عليكى شيوعية.
كانت المضيفة قد جاءت بالعربة عليها صوانى الطعام. سألتنى: سمك أم لحم البقر أم فراخ؟ تحيرت لحظة وقلت: ما رأيك أنتى؟ ابتسمت وقالت: كله لذيذ يا سيدتى. ضحكت وقلت: هاتى كله! ضحك الشاب الكهل الشبيه بجريجورى بيك الجالس إلى جوارى وقال للمضيفة:
- أظن أن لحم البقر الأكثر لذة يا سيدتى.
- لماذا يا سيدى؟
- لأنه مريض بالجنون.
أطلقت المضيفة ضحكة عالية متحررة من قيود الأرض، ووضعت أمامه طاجنا ملتهبا خارجا لتوه من الفرن، تفوح منه رائحة اللحم المشوى والباذلاء الخضراء. لم أكن بهذه الجرأة لأمرض بجنون البقر، رغم الجين تونيك والنبيذ الأحمر كانت خلية فى عقلى لا تزال واعية تماما، خاضعة لقيود الأرض والمنطق، تؤكد لى أن السمك المشوى أو الفراخ المشوية أفضل للصحة من اللحوم الحمراء، توقفت عن أكل اللحم الأحمر منذ عامين، بسبب ارتفاع الكوليسترول فى الدم، وبسبب ما اقرأه فى الصحف الأمريكية عن مرض جنون البقر فى بريطانيا، كان جريجورى بيك يلتهم طاجن اللحم بشهية الأطفال، أسنانه بيضاء حادة مثل أسنان الذئب، عيناه تلمعان بلون السماء الأزرق تشوبه خضرة الزرع.
- هل قال لك أحد من قبل أنك تشبهين صوفيا لورين؟
- وهل قال لك أحد من قبل أنك تشبه جريجورى بيك؟
ضحكنا طويلا وجاءت المضيفة تجر العربة عليها زجاجات الليكور الصغيرة، أنواع من المشروبات المركزة التى يشربها الأثرياء بعد وجبات الطعام كنوع من مسك الختام، أخذ زجاجة صغيرة من الكونياك "ديمى مارتن"، وأخذت أنا زجاجة من الليكور، له نكهة البرتقال، إسمه "كوانترو".
دار بيننا حوار طويل، طوال المسافة ما بين نيويورك ولندن، سبع ساعات ونصف ساعة نتحاور معا دون إنقطاع. نام الركاب جميعا فى الطائرة، إلا هو وأنا، شحنة من الحياة والسعادة تغمرنى من قمة الرأس حتى بطن القدمين، حالة من الحالات لم أعشها منذ كنت فى العاشرة من العمر، تشبه الطيران فى الحلم، أرمق جناح الطائرة الفولاذى الأسود يشق السحب اليضاء كأنما هو خيال،أو مشهد فى فيلم سينمائى، وأنا ألعب دور صوفيا لورين، ولماذا صوفيا لورين بالذات؟ فى أول الشباب حين كنت طالبة بالسنة الأولى بالجامعة كان بعض الطلبة ينتظروننى أمام مدخل الكلية، أسمع أحدهم يقول: سامية جمال جت أهه! صديقتى بطة كانت تقول أننى أشبه إستر ويليامز، لكن صفية تقول أننى أشبه صوفيا لورين. أما سامية فكانت ترانى عاطلة من الجمال، إلا العينان، فقط عيناكى يا نوال، والباقى كله لا شىء، صحراء جرداء تمط بوزها إلى الأمام، وهى تنطق الكلمتين صحراء جرداء.
تكلمنا سبع ساعات ونصف دون أن أسأله أو يسألنى عن إسم أبى أو جدى، أو جنسيتى أو دينى أو قبيلتى أو عائلتى أو أى شئ آخر من هذا القبيل. بدت كل هذه الأشياء غير ضرورية، المكتوبة فى جواز السفر، وما يسمونها عناصر الهوية أو الشخصية. بدت فى تلك اللحظة كأنما هى أغطية، مجرد أغطية، تخفى حقيقة الإنسان أكثر مما تظهرها.
وكأنما جزء من الحقيقة بدأ يظهر فوق السطح، مثل جبل الثلج تحت الماء، يظهر بالتدريج مع يقظة ما يسمونه اللاوعى، أو على الأصح غياب الوعى، ربما بسبب الارتفاع الشاهق فوق كوكب الأرض واكتشاف الكواكب الأخرى، أو ربما التغيير الكيميائى داخل خلايا المخ إثر النبيذ والجين تونيك والكوانترو.
- يبدو أنك سافرت كثيرا فى بلاد العالم.
- وأنت أيضا؟
- سافرت إلى كل بلاد العالم ما عدا البلاد العربية وإسرائيل.
- لماذا؟
- لأنى غاضب من حكومة إسرائيل ومن الحكومات العربية، كنت أحد المسئولين فى الأمم المتحدة عما يسمونه مشكلة الشرق الأوسط، ثم قدمت استقالتى.
- قدمت إستقالك من الأمم المتحدة؟
- منذ ثلاثة أيام فقط فى اجتماع نيويورك الأخير.
فرد ذراعيه عن آخرهما وملأ صدره بشهيق عميق أعقبه بزفير طويل وقال: أخيرا تحررت من سجن الوظيفة بالأمم المتحدة بعد ثلاثين عاما، عشت ثلاثين عاما كالسجين، أسيرا للقوى الدولية ومحكمة العدل ومجلس الأمن، كنت أفكر كل يوم فى الاستقالة لكنى لم أكن أملك حريتى، كنت أسير لمؤسسة أخرى داخل البيت.
حركته وهو يفرد ذراعيه عن آخرهما ويقول: أخيرا "تحررت من سجن الوظيفة" يكاد يشبه أبى حين فرد ذراعيه عن آخرهما بعد أن أحالوه إلى المعاش وصاح بعد أن أخذ شهيقا عميقا أعقبه بزفير طويل: أخيرا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين سنة، كنت رهين المحبسين الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية.
- هل أنت متزوجة؟
- نعم.
- وعندك أولاد وبنات؟
- إبنة واحدة وإبن واحد، وأنت؟
- عندى ثلاثة بنات، تخرجت الكبرى من كلية الصيدلة لكنها لم تحب رائحة الأدوية فالتحقت بفرقة موسيقية فى سويسرا، الإبنة الوسطى درست الأدب المقارن ثم سافرت إلى باريس، حيث تزوجت زميلا لها من جنوب إفريقيا، الإبنة الصغرى فى لوس أنجلوس ضمن حركة نسائية جديدة يسمونها ما بعد الفيمينيست، ضحك بصوت طفولى وقال،
- أنا مع تحرير المرأة لكن ابنتى تعيش مع زميلة لها أمريكية، تفخر بأنها "ليزبيان"، أنا لست ضد الحرية الجنسية، لكنى لا أنجذب للذكور، ربما أكون رجل تقليدى عجوز، وأنت؟ ماذا عن إبنتك وإبنك؟
- إبنتى تخرجت من كلية الاقتصاد وحصلت على درجة الماجتستير والدكتوراة لكنها تركت كل ذلك وتفرغت للأدب وكتابة القصص والمقالات، وإبنى تخرج من كلية الهندسة واشتغل مهندسا لمدة أسبوع واحد فقط ثم تفرغ للإخراج السينمائى.
- فانتاستيك! هذا جنون رائع! وأنت؟
- أنا تخرجت من كلية الطب وكذلك زوجى شريف، لكنه ترك الطب وتفرغ للأدب وكتابة الروايات، وأنا أيضا كاتبة وروائية.
- أنتم أسرة عجيبة مجنونة، وكلكم تعيشون فى القاهرة.
- نعم.
لم يكن سألنى عن إسمى حتى ذلك الوقت، ولم أكن سألته عن إسمه، لكنى تذكرت أننى قرأت عن استقالة أحد المسئولين بالأمم المتحدة فى إحدى الصحف قبل هبوط الطائرة فى نيويورك. كان هو قد غادر مقعده واختفى قليلا ربما فى دورة المياه. رأيت جريدة الجارديان تطل من الجراب أمام مقعده، بدأت أتصفحها حتى رأيت صورته فى إحدى الصفحات، وحوار قصير معه عن أسباب استقالته. أعدت الجارديان إلى مكانها فى الجراب، عاد إلى مقعده يحمل لفة صغيرة مربوطة بشريط أخضر رفيع، وضعها فى حقيبته الصغيرة تحت مقعده، ضحك وقال:
لابد من هدية صغيرة لزوجتى أكفر بها عن ذنوبى الكبيرة.
- قرأت الحوار معك فى الجارديان؟
- ما رأيك؟
- أتفق معك فى كل شىء إلا شىء واحد!
- ما هو؟
- كان يجب أن تستمر فى موقعك ولا تستقيل، لأن شخصا آخر سوف يحتل مكانك وينفذ ما يريدون.
- أنا معك لكنى تعبت، ثلاثين سنة وأنا أعيش هذه المأساة، أشارك فى هذه اللعبة السياسية التى يسمونها اجتماعات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، وكلها مجرد لعبة للتغطية على جرائم إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لم تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن، بينما تقوم الأمم المتحدة بنزع أسلحة الدمار الشامل فى العراق والبلاد العربية والأفريقية والآسيوية. لم تتحرك لنزع السلاح النووى فى إسرائيل، لأن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا، يريدان أن تكون إسرائيل القوة العسكرية النووية الوحيدة فى المنطقة، تملك إسرائيل أكثر من مائتين وخمسين صاروخ محمل برؤوس نووية، أين ستوجه هذه الرؤوس؟ إلى بغداد ودمشق والقاهرة وطهران وأنقرة وأى بلد فى المنطقة لا يدين بالولاء والطاعة! وهذه اللعبة السياسية التى يسمونها مفاوضات السلام فى الشرق الأوسط! أيمكن أن يكون هناك سلام وشعب العراق يموت منه الآلاف يوميا من الجوع تحت الحصار لأكثر من ثمانية أعوام؟ وهذه الأكذوبة عما يسمونه برنامج النفط مقابل الغذاء؟ هل يعقل أن فريق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل فى العراق تضم موظفين فى المخابرات الأمريكية يعيدون صياغة التقارير كما يشاءون؟! هل يعقل أن يتم تحميض الأفلام فى إسرائيل، هذه الأفلام التى تم تصويرها فى العراق بواسطة فريق التفتيش؟ هل يعقل أن المخابرات الإسرائيلية الموساد كانت تزود فريق التفتيش بالمعلومات عن المواقع الهامة كى يتم تدميرها بالكامل، ولإسرائيل خبرة فى هذا منذ ضربت المفاعل النووى فى العراق، وهذه المهزلة التى يسمونها تحريك عملية السلام، والمفاوضات المسدودة لتحقيق بعض حقوق الشعب الفلسطينى، فى الوقت الذى لا تتنازل فيه إسرائيل عن شىء، بل يزداد عدد المستوطنات ويزداد عدد القتلى من الفلسطينين! وبكل أسف فإن بعض الحكومات العربية تشارك فى هذه اللعبة كما شاركت فى حرب الخليج عام 1991.
توقف عن الكلام حين سمعنا الصوت ينبعث فى الميكرفون يقول: أربطوا الأحزمة ستهبط الطائرة فى مطار لندن، هيثرو.
- أنا أعيش فى لندن منذ ثلاثين عاما، زوجتى إنجليزية وهى أستاذة فى الجامعة تدرس الفيزياء، شعرها أبيض مثلك وهى فى جنيف الآن تحضر مؤتمراً نسائيا، إنها فيمينيست من الموجة الأولى، وهى تحب النساء أيضا، حب برىء وليس مثل إبنتنا الصغرى فى لوس أنجلوس، ثم ضحك، وسألنى، هل أنت فيمينست؟!
- هذه كلمة إنجليزية، وفى لغتنا العربية نستخدم كلمات مختلفة، وإن كان المعنى هو تحرير النساء، بالطبع أنا مع تحرير النساء وتحرير الرجال أيضا، فالمشكلة تتعلق بالنظام الطبقى الأبوى منذ نشوء العبودية وحتى اليوم.
هبطنا من الطائرة، كانت الساعة فى لندن السابعة صباحا، أخرجت ساعتى الصغيرة من حقيبة يدى، كانت لا تزال حسب التوقيت فى ديرهام، متأخرة عن لندن سبعة ساعات، حركت الوقت إلى الأمام بإصبعين إثنين سبعة دورات، رأسى يدور دائما فى تلك اللحظة حين أهبط من الطائرة وأحرك الوقت إلى الوراء أو إلى الأمام، يبدو الوقت كأنما لعبة أو أكذوبة دولية أو كونية مثل قرارات الأمم المتحدة، أترنح قليلا فى مشيتى مع الدوران فى رأسى أو فى الأرض تحت قدمى ربما بسبب الساعات الطويلة فى الجو داخل الطائرة النفاثة لكن ما هى إلى لحظة ويعود رأسى ثابتا فى مكانه، والأرض ثابتة تحت قدمى، أدب بقوة على بلاط الممر اللامع، يشبه الرخام الأبيض، كعب حذائى مربع متين يشبه كعوب أحذية الرجال، لا أرتدى الكعب الأنثوى الرفيع العالى، خطواتى واسعة سريعة، فى يدى حقيبة جلدية صغيرة، وهو يمشى إلى جوارى بالخطوة الواسعة السريعة، جسمه ممشوق وشعره أبيض غزير، عيناه يكسوهما بريق طفولى، يتلفت حوله فى دهشة كأنما يرى مطار هيثرو للمرة الأولى، توقف أمام بوتيك صغير يبيع الكروت والهدايا التذكارية.
- ما رأيك أشترى لك هدية صغيرة من لندن؟
- أشكرك، ليس عندى وقت.
- متى تقلع طائرتك إلى القاهرة.
- الساعة الرابعة مساء.
- أوهوه! الساعة الآن السابعة صباحا، أمامك أكثر من ثمانية ساعات انتظار، أنا لا أطيق الانتظار فى المطارات، وأنت؟
- أنا لا أطيق الانتظار أيضا، لكن معى رواية جديدة كنت أنوى قراءتها فى الطائرة.
- ضيعت وقتك فى الكلام؟!
- أبدا، لقد استمتعت بالحديث معك.
- فاتت سبع ساعات مثل سبع دقائق، لم أشعر بالوقت.
- الوقت أكذوبة كونية مثل قرارات مجلس الأمن.
أطق ضحكة طفولية، مددت يدى لأودعه لكنه تراجع خطوة إلى الوراء وقال: ولماذا تودعينى الآن وأمامك ثمانية ساعات؟! ما رأيك فى فنجان قهوة كابيتشينو وقطعة كرواسان؟ لا أحد ينتظرنى فى البيت وليس عندى عمل بعد الاستقالة، ويمكن أن أبقى معك قليلا إن شئت.
دخلنا إلى الكافيتيريا، نكهة القهوة تملؤنى بالانتعاش، أتشمم النكهة، أملأ بها صدرى فى شهيق عميق، ألامس بطرف لسانى رغوة اللبن المغلى الممزوج بالبن، يحترق طرف اللسان من شدة السخونة، مع ذلك لا أتغط ولا أتوقف عن تكرار أرتشاف السطح الملتهب، كما كنت أفعل فى طفولتى، أرشف الشاى واللبن المغلى، يتصاعد البخار إلى أنفى، أتلقاه فوق وجهى، تمتصه مسام بشرتى، أقضم على قطعة الكرواسان كأنما هى الفطيرة التى كانت أمى تخرجها من الفرن، وهو يرمقنى بعينين يكسوهما البريق، كأنما رأيت هذا البريق وهاتين العينين فى مكان وزمان لا أدرى عنهما شيئا، كأنما أنا أجلس فى هذه الكافيتريا فى مطار هيثرو منذ زمن بعيد، منذ وعيت الحياة وأصبح عندى ما يسمى الوعى، كأنما سأبقى جالسة هكذا فى مكانى إلى آخر الزمن، حتى يتسرب منى الوعى وأموت.
بعد لحظة واحدة أفيق إلى أننى أجلس إلى رجل غريب، تصادف أن جلس إلى جوارى فى الطائرة من نيويورك إلى لندن، أننى أجلس معه فى الكافتيريا داخل صالة الترانزيت، أقرأ كلمة "الترانزيت" باللغة الإنجليزية، أعرف أنها تعنى الانتظار المؤقت الذى سوف ينتهى عاجلا بعد دقائق أو ساعات قليلة.
- أنت شاردة تماما فيم تفكرين؟!
- هذه الحياة غريبة جدا، تصور أن …
- نعم أتصور أن الصدفة أغرب من الخيال.
- عندنا مثل عربى يقول: رب صدفة خير من ألف ميعاد.
- هى تبدو لنا صدفة، لكنها ليست صدفة، وقد ركبت آلاف الطائرات وجلس إلى جوارى آلاف الرجال والنساء ومع ذلك لم أتبادل كلمة واحدة مع أى منهم، إنها ليست صدفة يا ……… فجأة توقف عن الحديث، إتسعت عيناه بدهشة، تصورى لم أعرف إسمك حتى الآن! أنت عرفتى إسمى من الجارديان، لكن أصدقائى ينادوننى باسم "بيل".
- اسمى نوال يا بيل.
- نافال؟!
- نوال، بالواو.
- ناوال.
- لا توجد ألف بعد النون، نوال.
- نوال؟
- أيوه هذا صح!
- يا له من إسم عجيب، نوال!
أصبح ينطق الإسم على نحو صحيح، لم تكن كلمة "نوال" سهلة النطق لمن لا يتكلمون اللغة العربية أغلب أصدقائى الأجانب وصديقاتى ينطقون إسمى "نافال" أو ناوال، دائما بالألف بعد النون، لكنه أصبح ينادينى نوال كأنما يعرف اللغة العربية.
- هل تعرف بعض كلمات عربية يا بيل؟
- كلمات قليلة جداً مثل شوكرن.
- شكرا وليس شوكرن.
- شوكرا.
- شكرا، بدون الواو بعد الشين.
- شكرا
- أيوه هذا صح.
- شكرا نوال.
- الإسم يأتى أولا، نقول: نوال، شكرا، وليس شكرا نوال.
- - نوال، شكرا.
أطلق ضحكته الطفولية المعدية، ضحكت وأنا أعلمه النطق الصحيح، وهو ينطق الحروف بدقة كأنما سيتكلم اللغة العربية حتى الموت، وأنا أضحك كما كنت أضحك فى المدرسة الإبتدائية فى منوف.
- سأقول لك سر يا نوال، لو قلتى لى تعالى معى إلى القاهرة سأشترى تذكرة وأركب معك الطائرة الساعة الرابعة، لكنى أعرف أنك لن تقولى هذا، لأنك إنسانة عاقلة، وأنا أيضا عاقل، لكن هذا العقل جعلنى سجين الوظيفة ثلاثين عاما، هذا العقل قضى على سعادتى فى الحياة ولقد جاءتنى بعض الفرص القليلة لأخرج من السجن لكنى كنت أخاف، منذ عشرة أعوام تقريبا، قابلت إنسانة مثلك فى مؤتمر الأمم المتحدة فى جنيف عام 1986، كدت أترك كل شىء وأسافر معها إلى ريو دى جانيرو، لكنى تراجعت وعدت إلى السجن، مثل المحكوم عليه بقرار مؤبد من قوة عليا مجهولة.
- ربما هى مارجريت تاتشر، أطلق ضحكة ثم واصل الحديث،
- تقريبا كل عشر سنوات ألتقى بهذا النوع من الناس، نساء أو رجال، هذا النوع من الصداقة النادرة التى لا تعرف الفروق المصنوعة يبن البشر، لا الجنس ولا الجنسية ولا الدين ولا اللون ولا العرق ولا إسم العائلة، فقط الإسم الأول، نوال.
حين نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة والنصف، مضت ستة ساعات ونصف ونحن نتكلم دون أن نشعر، كانت الكافيتريا قد ازدحمت بالمسافرين، ناس يجيئون يجرون حقائبهم ثم يروحون، ويأتى غيرهم بحقائبهم ثم يمضون فى حياتهم دون أن يتركوا وراءهم أثرا، أتأمل وجوه المسافرين، رجال ونساء وأطفال، كأنما رأيت هذه الوجوه من قبل فى كل المطارات، وهذه الحقائب يجرونها فوق العجلات، وهذه الفتاة الجرسونة التى تحمل الصينية فوقها الصحون والأكواب وتجرى بين الموائد، وصوت الملاعق، وفرقعات سدادات الزجاجات، وصوت الثلج داخل الكئوس، ورائحة الشواء والطواجن الخارجة من الفرن.
- لابد أنك جائعة وقد أتى موعد الغداء، أنا شخصيا أشعر بجوع غريب، ماذا تشربين قبل الغداء، جين تونيك؟!
- حكيت له عن صديقتى بطة وأول مرة أسمع كلمة الجين تونيك منذ سبعة وثلاثين عاما فى عيادتى الطبية، بميدان الجيزة عام 1959، بعد وفاة أبى.
- أنت طبيبة يا نوال؟
- نعم، ولكنى كرهت المهنة، أغلقت عيادتى منذ سنين طويلة.
- وماذا تعملين الآن؟
- أكتب روايات وقصص!
- فانتاستيك! أنت مجنونة يا نوال، وأنا أحب هذا الجنون، أنجذب إليه لأنى افتقده، لقد فقدت جنونى ثلاثين عاما داخل السجن، أصبحت موظفا بالأمم المتحدة أشارك فى مهنة السياسة الدولية دون أن أومن بها، وأخيرا بعد ثلاثين سنة أحرر نفسى، لكن بعد فوات الأوان يا نوال، كان حلم حياتى أن أكون موسيقيا مثل شوبان أو موتسارت.
- ليس هناك شىء إسمه فوات الأوان، أنت لازلت فى ريعان الشباب يا بيل.
- لكنى أرى نفسى فى المرآة كهلا عجوزا.
- المرآة خادعة وكاذبة مثل قرارات الأمم المتحدة! ضحكنا ونحن نرشف الجين تونيك ثم طلبنا زجاجة النبيذ الأحمر، مع السمك المشوى وطاجن أرز فى الفرن، وسلاطة خضراء من الخيار والطماطم والخس.
ثم سمعنا الصوت يعلن فى الميكرفون عن توجه المسافرين للقاهرة إلى باب الخروج رقم أربعة. سار معى حتى باب الخروج، توقف لحظة يصافحنى، تظاهرت أننى لا أرى عينيه، ابتسمت وأنا أشد على يده وأقول:
- سنلتقى مرة أخرى يا بيل.
- هذا أكيد يا نوال، سأكتب إليك ومن يدرى ربما تريننى فى القاهرة قريبا جدا.
* * * *
إستدرت قبل أن أختفى وراء باب الخروج، رأيته واقفا يلوح لى بيده، عيناه فيهما حزن عميق، سرت نحو باب الطائرة بخطوات بطيئة ثقيلة، جلست فى مقعدى بجوار النافذة، دخل رجل وجلس فى المقعد المجاور لى، وجهه أبيض منتفخ باللحم، كتفاه عريضان مثل مروضى الثيران فى أسبانيا، خلع الجاكت وناوله للمضيفة بحركة ذوى السلطة والنفوذ، جلس وملأ المقعد بجسده الضخم، فتح حقيبة سوداء سامسونايت وأخرج منها بعض الأوراق، راح يبحلق فيها بعنين جاحظتين قليلا، أسند رأسه إلى الوراء، ثم راح فى سبات عميق.
* * * *
فى مطار القاهرة كان ينتظرنى شريف، ومنى وعاطف، الوجوه الثلاثة الحميمة رأيتها تطل علىَّ وأنا أخرج من الباب أجر العربة فوقها الحقائب، تعانقنا بحرارة الشوق والحب، سرت بينهم أملأ صدرى بنسمة الوطن الدافئة، فى الليل قبل أن يحوطنى شريف بذراعيه حكيت له ما حدث فى مطار هيثرو. ابتسم شريف بهدوئه المعتاد وقال، أول ما شفتك فى المطار قلت نوال راجعة من مغامرة مثيرة، مشكلتك يا نوال إن كل حاجة بتبان فى عنيكى، وضحكنا كما كنا نضحك منذ ثلاثين عاما حين كنا نحكى عن المغامرات قبل الزواج
كان ذلك فى يوليو 1959، مصر تتأرجح بين اليسار واليمين والوسط والإخوان المسلمين، أعوان عبد الناصر يضربون أى رأى لا يدين بالولاء والطاعة. الرقابة على الكتب والأفلام والصحف وكل شئ. رفضت الرقابة رواية مذكرات طبيبة. حاول صلاح أبو سيف مرة أخرى بعد عامين، لم ينجح فى الحصول على الموافقة، حاول مرة ثالثة عام 1966، ومرة رابعة عام 1972، ثم سمعت صوته اليائس عبر الأسلاك يقول: المشكلة ليست فى الرواية يا دكتورة، المشكلة فى إسم نوال السعداوى.
- ماله الأسم يا أستاذ صلاح؟
- بيقولوا عليكى شيوعية.
كانت المضيفة قد جاءت بالعربة عليها صوانى الطعام. سألتنى: سمك أم لحم البقر أم فراخ؟ تحيرت لحظة وقلت: ما رأيك أنتى؟ ابتسمت وقالت: كله لذيذ يا سيدتى. ضحكت وقلت: هاتى كله! ضحك الشاب الكهل الشبيه بجريجورى بيك الجالس إلى جوارى وقال للمضيفة:
- أظن أن لحم البقر الأكثر لذة يا سيدتى.
- لماذا يا سيدى؟
- لأنه مريض بالجنون.
أطلقت المضيفة ضحكة عالية متحررة من قيود الأرض، ووضعت أمامه طاجنا ملتهبا خارجا لتوه من الفرن، تفوح منه رائحة اللحم المشوى والباذلاء الخضراء. لم أكن بهذه الجرأة لأمرض بجنون البقر، رغم الجين تونيك والنبيذ الأحمر كانت خلية فى عقلى لا تزال واعية تماما، خاضعة لقيود الأرض والمنطق، تؤكد لى أن السمك المشوى أو الفراخ المشوية أفضل للصحة من اللحوم الحمراء، توقفت عن أكل اللحم الأحمر منذ عامين، بسبب ارتفاع الكوليسترول فى الدم، وبسبب ما اقرأه فى الصحف الأمريكية عن مرض جنون البقر فى بريطانيا، كان جريجورى بيك يلتهم طاجن اللحم بشهية الأطفال، أسنانه بيضاء حادة مثل أسنان الذئب، عيناه تلمعان بلون السماء الأزرق تشوبه خضرة الزرع.
- هل قال لك أحد من قبل أنك تشبهين صوفيا لورين؟
- وهل قال لك أحد من قبل أنك تشبه جريجورى بيك؟
ضحكنا طويلا وجاءت المضيفة تجر العربة عليها زجاجات الليكور الصغيرة، أنواع من المشروبات المركزة التى يشربها الأثرياء بعد وجبات الطعام كنوع من مسك الختام، أخذ زجاجة صغيرة من الكونياك "ديمى مارتن"، وأخذت أنا زجاجة من الليكور، له نكهة البرتقال، إسمه "كوانترو".
دار بيننا حوار طويل، طوال المسافة ما بين نيويورك ولندن، سبع ساعات ونصف ساعة نتحاور معا دون إنقطاع. نام الركاب جميعا فى الطائرة، إلا هو وأنا، شحنة من الحياة والسعادة تغمرنى من قمة الرأس حتى بطن القدمين، حالة من الحالات لم أعشها منذ كنت فى العاشرة من العمر، تشبه الطيران فى الحلم، أرمق جناح الطائرة الفولاذى الأسود يشق السحب اليضاء كأنما هو خيال،أو مشهد فى فيلم سينمائى، وأنا ألعب دور صوفيا لورين، ولماذا صوفيا لورين بالذات؟ فى أول الشباب حين كنت طالبة بالسنة الأولى بالجامعة كان بعض الطلبة ينتظروننى أمام مدخل الكلية، أسمع أحدهم يقول: سامية جمال جت أهه! صديقتى بطة كانت تقول أننى أشبه إستر ويليامز، لكن صفية تقول أننى أشبه صوفيا لورين. أما سامية فكانت ترانى عاطلة من الجمال، إلا العينان، فقط عيناكى يا نوال، والباقى كله لا شىء، صحراء جرداء تمط بوزها إلى الأمام، وهى تنطق الكلمتين صحراء جرداء.
تكلمنا سبع ساعات ونصف دون أن أسأله أو يسألنى عن إسم أبى أو جدى، أو جنسيتى أو دينى أو قبيلتى أو عائلتى أو أى شئ آخر من هذا القبيل. بدت كل هذه الأشياء غير ضرورية، المكتوبة فى جواز السفر، وما يسمونها عناصر الهوية أو الشخصية. بدت فى تلك اللحظة كأنما هى أغطية، مجرد أغطية، تخفى حقيقة الإنسان أكثر مما تظهرها.
وكأنما جزء من الحقيقة بدأ يظهر فوق السطح، مثل جبل الثلج تحت الماء، يظهر بالتدريج مع يقظة ما يسمونه اللاوعى، أو على الأصح غياب الوعى، ربما بسبب الارتفاع الشاهق فوق كوكب الأرض واكتشاف الكواكب الأخرى، أو ربما التغيير الكيميائى داخل خلايا المخ إثر النبيذ والجين تونيك والكوانترو.
- يبدو أنك سافرت كثيرا فى بلاد العالم.
- وأنت أيضا؟
- سافرت إلى كل بلاد العالم ما عدا البلاد العربية وإسرائيل.
- لماذا؟
- لأنى غاضب من حكومة إسرائيل ومن الحكومات العربية، كنت أحد المسئولين فى الأمم المتحدة عما يسمونه مشكلة الشرق الأوسط، ثم قدمت استقالتى.
- قدمت إستقالك من الأمم المتحدة؟
- منذ ثلاثة أيام فقط فى اجتماع نيويورك الأخير.
فرد ذراعيه عن آخرهما وملأ صدره بشهيق عميق أعقبه بزفير طويل وقال: أخيرا تحررت من سجن الوظيفة بالأمم المتحدة بعد ثلاثين عاما، عشت ثلاثين عاما كالسجين، أسيرا للقوى الدولية ومحكمة العدل ومجلس الأمن، كنت أفكر كل يوم فى الاستقالة لكنى لم أكن أملك حريتى، كنت أسير لمؤسسة أخرى داخل البيت.
حركته وهو يفرد ذراعيه عن آخرهما ويقول: أخيرا "تحررت من سجن الوظيفة" يكاد يشبه أبى حين فرد ذراعيه عن آخرهما بعد أن أحالوه إلى المعاش وصاح بعد أن أخذ شهيقا عميقا أعقبه بزفير طويل: أخيرا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين سنة، كنت رهين المحبسين الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية.
- هل أنت متزوجة؟
- نعم.
- وعندك أولاد وبنات؟
- إبنة واحدة وإبن واحد، وأنت؟
- عندى ثلاثة بنات، تخرجت الكبرى من كلية الصيدلة لكنها لم تحب رائحة الأدوية فالتحقت بفرقة موسيقية فى سويسرا، الإبنة الوسطى درست الأدب المقارن ثم سافرت إلى باريس، حيث تزوجت زميلا لها من جنوب إفريقيا، الإبنة الصغرى فى لوس أنجلوس ضمن حركة نسائية جديدة يسمونها ما بعد الفيمينيست، ضحك بصوت طفولى وقال،
- أنا مع تحرير المرأة لكن ابنتى تعيش مع زميلة لها أمريكية، تفخر بأنها "ليزبيان"، أنا لست ضد الحرية الجنسية، لكنى لا أنجذب للذكور، ربما أكون رجل تقليدى عجوز، وأنت؟ ماذا عن إبنتك وإبنك؟
- إبنتى تخرجت من كلية الاقتصاد وحصلت على درجة الماجتستير والدكتوراة لكنها تركت كل ذلك وتفرغت للأدب وكتابة القصص والمقالات، وإبنى تخرج من كلية الهندسة واشتغل مهندسا لمدة أسبوع واحد فقط ثم تفرغ للإخراج السينمائى.
- فانتاستيك! هذا جنون رائع! وأنت؟
- أنا تخرجت من كلية الطب وكذلك زوجى شريف، لكنه ترك الطب وتفرغ للأدب وكتابة الروايات، وأنا أيضا كاتبة وروائية.
- أنتم أسرة عجيبة مجنونة، وكلكم تعيشون فى القاهرة.
- نعم.
لم يكن سألنى عن إسمى حتى ذلك الوقت، ولم أكن سألته عن إسمه، لكنى تذكرت أننى قرأت عن استقالة أحد المسئولين بالأمم المتحدة فى إحدى الصحف قبل هبوط الطائرة فى نيويورك. كان هو قد غادر مقعده واختفى قليلا ربما فى دورة المياه. رأيت جريدة الجارديان تطل من الجراب أمام مقعده، بدأت أتصفحها حتى رأيت صورته فى إحدى الصفحات، وحوار قصير معه عن أسباب استقالته. أعدت الجارديان إلى مكانها فى الجراب، عاد إلى مقعده يحمل لفة صغيرة مربوطة بشريط أخضر رفيع، وضعها فى حقيبته الصغيرة تحت مقعده، ضحك وقال:
لابد من هدية صغيرة لزوجتى أكفر بها عن ذنوبى الكبيرة.
- قرأت الحوار معك فى الجارديان؟
- ما رأيك؟
- أتفق معك فى كل شىء إلا شىء واحد!
- ما هو؟
- كان يجب أن تستمر فى موقعك ولا تستقيل، لأن شخصا آخر سوف يحتل مكانك وينفذ ما يريدون.
- أنا معك لكنى تعبت، ثلاثين سنة وأنا أعيش هذه المأساة، أشارك فى هذه اللعبة السياسية التى يسمونها اجتماعات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، وكلها مجرد لعبة للتغطية على جرائم إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لم تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن، بينما تقوم الأمم المتحدة بنزع أسلحة الدمار الشامل فى العراق والبلاد العربية والأفريقية والآسيوية. لم تتحرك لنزع السلاح النووى فى إسرائيل، لأن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا، يريدان أن تكون إسرائيل القوة العسكرية النووية الوحيدة فى المنطقة، تملك إسرائيل أكثر من مائتين وخمسين صاروخ محمل برؤوس نووية، أين ستوجه هذه الرؤوس؟ إلى بغداد ودمشق والقاهرة وطهران وأنقرة وأى بلد فى المنطقة لا يدين بالولاء والطاعة! وهذه اللعبة السياسية التى يسمونها مفاوضات السلام فى الشرق الأوسط! أيمكن أن يكون هناك سلام وشعب العراق يموت منه الآلاف يوميا من الجوع تحت الحصار لأكثر من ثمانية أعوام؟ وهذه الأكذوبة عما يسمونه برنامج النفط مقابل الغذاء؟ هل يعقل أن فريق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل فى العراق تضم موظفين فى المخابرات الأمريكية يعيدون صياغة التقارير كما يشاءون؟! هل يعقل أن يتم تحميض الأفلام فى إسرائيل، هذه الأفلام التى تم تصويرها فى العراق بواسطة فريق التفتيش؟ هل يعقل أن المخابرات الإسرائيلية الموساد كانت تزود فريق التفتيش بالمعلومات عن المواقع الهامة كى يتم تدميرها بالكامل، ولإسرائيل خبرة فى هذا منذ ضربت المفاعل النووى فى العراق، وهذه المهزلة التى يسمونها تحريك عملية السلام، والمفاوضات المسدودة لتحقيق بعض حقوق الشعب الفلسطينى، فى الوقت الذى لا تتنازل فيه إسرائيل عن شىء، بل يزداد عدد المستوطنات ويزداد عدد القتلى من الفلسطينين! وبكل أسف فإن بعض الحكومات العربية تشارك فى هذه اللعبة كما شاركت فى حرب الخليج عام 1991.
توقف عن الكلام حين سمعنا الصوت ينبعث فى الميكرفون يقول: أربطوا الأحزمة ستهبط الطائرة فى مطار لندن، هيثرو.
- أنا أعيش فى لندن منذ ثلاثين عاما، زوجتى إنجليزية وهى أستاذة فى الجامعة تدرس الفيزياء، شعرها أبيض مثلك وهى فى جنيف الآن تحضر مؤتمراً نسائيا، إنها فيمينيست من الموجة الأولى، وهى تحب النساء أيضا، حب برىء وليس مثل إبنتنا الصغرى فى لوس أنجلوس، ثم ضحك، وسألنى، هل أنت فيمينست؟!
- هذه كلمة إنجليزية، وفى لغتنا العربية نستخدم كلمات مختلفة، وإن كان المعنى هو تحرير النساء، بالطبع أنا مع تحرير النساء وتحرير الرجال أيضا، فالمشكلة تتعلق بالنظام الطبقى الأبوى منذ نشوء العبودية وحتى اليوم.
هبطنا من الطائرة، كانت الساعة فى لندن السابعة صباحا، أخرجت ساعتى الصغيرة من حقيبة يدى، كانت لا تزال حسب التوقيت فى ديرهام، متأخرة عن لندن سبعة ساعات، حركت الوقت إلى الأمام بإصبعين إثنين سبعة دورات، رأسى يدور دائما فى تلك اللحظة حين أهبط من الطائرة وأحرك الوقت إلى الوراء أو إلى الأمام، يبدو الوقت كأنما لعبة أو أكذوبة دولية أو كونية مثل قرارات الأمم المتحدة، أترنح قليلا فى مشيتى مع الدوران فى رأسى أو فى الأرض تحت قدمى ربما بسبب الساعات الطويلة فى الجو داخل الطائرة النفاثة لكن ما هى إلى لحظة ويعود رأسى ثابتا فى مكانه، والأرض ثابتة تحت قدمى، أدب بقوة على بلاط الممر اللامع، يشبه الرخام الأبيض، كعب حذائى مربع متين يشبه كعوب أحذية الرجال، لا أرتدى الكعب الأنثوى الرفيع العالى، خطواتى واسعة سريعة، فى يدى حقيبة جلدية صغيرة، وهو يمشى إلى جوارى بالخطوة الواسعة السريعة، جسمه ممشوق وشعره أبيض غزير، عيناه يكسوهما بريق طفولى، يتلفت حوله فى دهشة كأنما يرى مطار هيثرو للمرة الأولى، توقف أمام بوتيك صغير يبيع الكروت والهدايا التذكارية.
- ما رأيك أشترى لك هدية صغيرة من لندن؟
- أشكرك، ليس عندى وقت.
- متى تقلع طائرتك إلى القاهرة.
- الساعة الرابعة مساء.
- أوهوه! الساعة الآن السابعة صباحا، أمامك أكثر من ثمانية ساعات انتظار، أنا لا أطيق الانتظار فى المطارات، وأنت؟
- أنا لا أطيق الانتظار أيضا، لكن معى رواية جديدة كنت أنوى قراءتها فى الطائرة.
- ضيعت وقتك فى الكلام؟!
- أبدا، لقد استمتعت بالحديث معك.
- فاتت سبع ساعات مثل سبع دقائق، لم أشعر بالوقت.
- الوقت أكذوبة كونية مثل قرارات مجلس الأمن.
أطق ضحكة طفولية، مددت يدى لأودعه لكنه تراجع خطوة إلى الوراء وقال: ولماذا تودعينى الآن وأمامك ثمانية ساعات؟! ما رأيك فى فنجان قهوة كابيتشينو وقطعة كرواسان؟ لا أحد ينتظرنى فى البيت وليس عندى عمل بعد الاستقالة، ويمكن أن أبقى معك قليلا إن شئت.
دخلنا إلى الكافيتيريا، نكهة القهوة تملؤنى بالانتعاش، أتشمم النكهة، أملأ بها صدرى فى شهيق عميق، ألامس بطرف لسانى رغوة اللبن المغلى الممزوج بالبن، يحترق طرف اللسان من شدة السخونة، مع ذلك لا أتغط ولا أتوقف عن تكرار أرتشاف السطح الملتهب، كما كنت أفعل فى طفولتى، أرشف الشاى واللبن المغلى، يتصاعد البخار إلى أنفى، أتلقاه فوق وجهى، تمتصه مسام بشرتى، أقضم على قطعة الكرواسان كأنما هى الفطيرة التى كانت أمى تخرجها من الفرن، وهو يرمقنى بعينين يكسوهما البريق، كأنما رأيت هذا البريق وهاتين العينين فى مكان وزمان لا أدرى عنهما شيئا، كأنما أنا أجلس فى هذه الكافيتريا فى مطار هيثرو منذ زمن بعيد، منذ وعيت الحياة وأصبح عندى ما يسمى الوعى، كأنما سأبقى جالسة هكذا فى مكانى إلى آخر الزمن، حتى يتسرب منى الوعى وأموت.
بعد لحظة واحدة أفيق إلى أننى أجلس إلى رجل غريب، تصادف أن جلس إلى جوارى فى الطائرة من نيويورك إلى لندن، أننى أجلس معه فى الكافتيريا داخل صالة الترانزيت، أقرأ كلمة "الترانزيت" باللغة الإنجليزية، أعرف أنها تعنى الانتظار المؤقت الذى سوف ينتهى عاجلا بعد دقائق أو ساعات قليلة.
- أنت شاردة تماما فيم تفكرين؟!
- هذه الحياة غريبة جدا، تصور أن …
- نعم أتصور أن الصدفة أغرب من الخيال.
- عندنا مثل عربى يقول: رب صدفة خير من ألف ميعاد.
- هى تبدو لنا صدفة، لكنها ليست صدفة، وقد ركبت آلاف الطائرات وجلس إلى جوارى آلاف الرجال والنساء ومع ذلك لم أتبادل كلمة واحدة مع أى منهم، إنها ليست صدفة يا ……… فجأة توقف عن الحديث، إتسعت عيناه بدهشة، تصورى لم أعرف إسمك حتى الآن! أنت عرفتى إسمى من الجارديان، لكن أصدقائى ينادوننى باسم "بيل".
- اسمى نوال يا بيل.
- نافال؟!
- نوال، بالواو.
- ناوال.
- لا توجد ألف بعد النون، نوال.
- نوال؟
- أيوه هذا صح!
- يا له من إسم عجيب، نوال!
أصبح ينطق الإسم على نحو صحيح، لم تكن كلمة "نوال" سهلة النطق لمن لا يتكلمون اللغة العربية أغلب أصدقائى الأجانب وصديقاتى ينطقون إسمى "نافال" أو ناوال، دائما بالألف بعد النون، لكنه أصبح ينادينى نوال كأنما يعرف اللغة العربية.
- هل تعرف بعض كلمات عربية يا بيل؟
- كلمات قليلة جداً مثل شوكرن.
- شكرا وليس شوكرن.
- شوكرا.
- شكرا، بدون الواو بعد الشين.
- شكرا
- أيوه هذا صح.
- شكرا نوال.
- الإسم يأتى أولا، نقول: نوال، شكرا، وليس شكرا نوال.
- - نوال، شكرا.
أطلق ضحكته الطفولية المعدية، ضحكت وأنا أعلمه النطق الصحيح، وهو ينطق الحروف بدقة كأنما سيتكلم اللغة العربية حتى الموت، وأنا أضحك كما كنت أضحك فى المدرسة الإبتدائية فى منوف.
- سأقول لك سر يا نوال، لو قلتى لى تعالى معى إلى القاهرة سأشترى تذكرة وأركب معك الطائرة الساعة الرابعة، لكنى أعرف أنك لن تقولى هذا، لأنك إنسانة عاقلة، وأنا أيضا عاقل، لكن هذا العقل جعلنى سجين الوظيفة ثلاثين عاما، هذا العقل قضى على سعادتى فى الحياة ولقد جاءتنى بعض الفرص القليلة لأخرج من السجن لكنى كنت أخاف، منذ عشرة أعوام تقريبا، قابلت إنسانة مثلك فى مؤتمر الأمم المتحدة فى جنيف عام 1986، كدت أترك كل شىء وأسافر معها إلى ريو دى جانيرو، لكنى تراجعت وعدت إلى السجن، مثل المحكوم عليه بقرار مؤبد من قوة عليا مجهولة.
- ربما هى مارجريت تاتشر، أطلق ضحكة ثم واصل الحديث،
- تقريبا كل عشر سنوات ألتقى بهذا النوع من الناس، نساء أو رجال، هذا النوع من الصداقة النادرة التى لا تعرف الفروق المصنوعة يبن البشر، لا الجنس ولا الجنسية ولا الدين ولا اللون ولا العرق ولا إسم العائلة، فقط الإسم الأول، نوال.
حين نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة والنصف، مضت ستة ساعات ونصف ونحن نتكلم دون أن نشعر، كانت الكافيتريا قد ازدحمت بالمسافرين، ناس يجيئون يجرون حقائبهم ثم يروحون، ويأتى غيرهم بحقائبهم ثم يمضون فى حياتهم دون أن يتركوا وراءهم أثرا، أتأمل وجوه المسافرين، رجال ونساء وأطفال، كأنما رأيت هذه الوجوه من قبل فى كل المطارات، وهذه الحقائب يجرونها فوق العجلات، وهذه الفتاة الجرسونة التى تحمل الصينية فوقها الصحون والأكواب وتجرى بين الموائد، وصوت الملاعق، وفرقعات سدادات الزجاجات، وصوت الثلج داخل الكئوس، ورائحة الشواء والطواجن الخارجة من الفرن.
- لابد أنك جائعة وقد أتى موعد الغداء، أنا شخصيا أشعر بجوع غريب، ماذا تشربين قبل الغداء، جين تونيك؟!
- حكيت له عن صديقتى بطة وأول مرة أسمع كلمة الجين تونيك منذ سبعة وثلاثين عاما فى عيادتى الطبية، بميدان الجيزة عام 1959، بعد وفاة أبى.
- أنت طبيبة يا نوال؟
- نعم، ولكنى كرهت المهنة، أغلقت عيادتى منذ سنين طويلة.
- وماذا تعملين الآن؟
- أكتب روايات وقصص!
- فانتاستيك! أنت مجنونة يا نوال، وأنا أحب هذا الجنون، أنجذب إليه لأنى افتقده، لقد فقدت جنونى ثلاثين عاما داخل السجن، أصبحت موظفا بالأمم المتحدة أشارك فى مهنة السياسة الدولية دون أن أومن بها، وأخيرا بعد ثلاثين سنة أحرر نفسى، لكن بعد فوات الأوان يا نوال، كان حلم حياتى أن أكون موسيقيا مثل شوبان أو موتسارت.
- ليس هناك شىء إسمه فوات الأوان، أنت لازلت فى ريعان الشباب يا بيل.
- لكنى أرى نفسى فى المرآة كهلا عجوزا.
- المرآة خادعة وكاذبة مثل قرارات الأمم المتحدة! ضحكنا ونحن نرشف الجين تونيك ثم طلبنا زجاجة النبيذ الأحمر، مع السمك المشوى وطاجن أرز فى الفرن، وسلاطة خضراء من الخيار والطماطم والخس.
ثم سمعنا الصوت يعلن فى الميكرفون عن توجه المسافرين للقاهرة إلى باب الخروج رقم أربعة. سار معى حتى باب الخروج، توقف لحظة يصافحنى، تظاهرت أننى لا أرى عينيه، ابتسمت وأنا أشد على يده وأقول:
- سنلتقى مرة أخرى يا بيل.
- هذا أكيد يا نوال، سأكتب إليك ومن يدرى ربما تريننى فى القاهرة قريبا جدا.
* * * *
إستدرت قبل أن أختفى وراء باب الخروج، رأيته واقفا يلوح لى بيده، عيناه فيهما حزن عميق، سرت نحو باب الطائرة بخطوات بطيئة ثقيلة، جلست فى مقعدى بجوار النافذة، دخل رجل وجلس فى المقعد المجاور لى، وجهه أبيض منتفخ باللحم، كتفاه عريضان مثل مروضى الثيران فى أسبانيا، خلع الجاكت وناوله للمضيفة بحركة ذوى السلطة والنفوذ، جلس وملأ المقعد بجسده الضخم، فتح حقيبة سوداء سامسونايت وأخرج منها بعض الأوراق، راح يبحلق فيها بعنين جاحظتين قليلا، أسند رأسه إلى الوراء، ثم راح فى سبات عميق.
* * * *
فى مطار القاهرة كان ينتظرنى شريف، ومنى وعاطف، الوجوه الثلاثة الحميمة رأيتها تطل علىَّ وأنا أخرج من الباب أجر العربة فوقها الحقائب، تعانقنا بحرارة الشوق والحب، سرت بينهم أملأ صدرى بنسمة الوطن الدافئة، فى الليل قبل أن يحوطنى شريف بذراعيه حكيت له ما حدث فى مطار هيثرو. ابتسم شريف بهدوئه المعتاد وقال، أول ما شفتك فى المطار قلت نوال راجعة من مغامرة مثيرة، مشكلتك يا نوال إن كل حاجة بتبان فى عنيكى، وضحكنا كما كنا نضحك منذ ثلاثين عاما حين كنا نحكى عن المغامرات قبل الزواج
yachar kamal- Ast çavuş
- عدد الرسائل : 87
الموقع : http://alhor.net
العائلة التركمانية : oğuz Begdili
تاريخ التسجيل : 15/04/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
احييك اخي يشار
ولكن هل تعرف جيدا من هي الدكتورة نوال التي تنشر لها
في هذا المنتدى ام ماذا تقول
ولكن هل تعرف جيدا من هي الدكتورة نوال التي تنشر لها
في هذا المنتدى ام ماذا تقول
gizem- Çavuş
- عدد الرسائل : 108
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 29/11/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
مشكور كتير أخي يشار لعى المقالة الرائعة
و بصراحة أول مرة بسمع أنو في واحد أستقال من الأمم المتحدة بسبب عدم أكتراث أسرائيل لقرارات الأمم المتحدة
أظن أخي كيزم أنو الأخ يشار عارف مين هي نوال
و على ما أظن أو مو عيب يكون الواحد شيوعي و بعبر عن رأيه
العيب في بعض العالم يلي مو عرفانين شو عم يعملوا بالحياة و مو عرفانيين الله وين حاططهم
و بصراحة أول مرة بسمع أنو في واحد أستقال من الأمم المتحدة بسبب عدم أكتراث أسرائيل لقرارات الأمم المتحدة
أظن أخي كيزم أنو الأخ يشار عارف مين هي نوال
و على ما أظن أو مو عيب يكون الواحد شيوعي و بعبر عن رأيه
العيب في بعض العالم يلي مو عرفانين شو عم يعملوا بالحياة و مو عرفانيين الله وين حاططهم
bozkurt oglu- Üst çavuş
- عدد الرسائل : 215
العمر : 36
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 13/04/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
شكرا لك الاخ bozkurt ogluعلى ردك و قرايتك للموضوع
و لكن الاخ gizem
هل ردك نوع من الاستهزاء و اذا غير ذالك فماذا يكون ؟؟؟؟؟؟
yachar kamal- Ast çavuş
- عدد الرسائل : 87
الموقع : http://alhor.net
العائلة التركمانية : oğuz Begdili
تاريخ التسجيل : 15/04/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
لا ابدا واذا كنت قد فهمت كلامي
على هذا الشكل فعتبر شيئا لم يكن
على هذا الشكل فعتبر شيئا لم يكن
gizem- Çavuş
- عدد الرسائل : 108
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 29/11/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
[center][size=24]
فأريد منك يااخي gizem
شرح ما تقول(ولكن هل تعرف جيدا من هي الدكتورة نوال التي تنشر لها
في هذا المنتدى ام ماذا تقول )
فلا تتهرب من صلب الموضوع يا صديقي
للتنويه لم تعرفنا عن نفسك صديقي هل انت تركماني مجهول الهوية ؟؟؟
[اتمنى الرد على الاسئلة و عدم التهرب من الموضوع
ابو جيفارا
.
gizem كتب:[size=18]لا ابدا واذا كنت قد فهمت كلامي
على هذا الشكل فعتبر شيئا لم يكن
فأريد منك يااخي gizem
شرح ما تقول(ولكن هل تعرف جيدا من هي الدكتورة نوال التي تنشر لها
في هذا المنتدى ام ماذا تقول )
فلا تتهرب من صلب الموضوع يا صديقي
للتنويه لم تعرفنا عن نفسك صديقي هل انت تركماني مجهول الهوية ؟؟؟
[اتمنى الرد على الاسئلة و عدم التهرب من الموضوع
ابو جيفارا
.
yachar kamal- Ast çavuş
- عدد الرسائل : 87
الموقع : http://alhor.net
العائلة التركمانية : oğuz Begdili
تاريخ التسجيل : 15/04/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
عذرا اخي يشار لقد عرفت عن نفسك في منتدى التعارف بهذه العبارة
(انني تركماني من الجولان و اتمنى ان يكون المنتدى قد الحمل)
وانانفس الشيئ
(انني تركماني من الجولان و اتمنى ان يكون المنتدى قد الحمل)
وانانفس الشيئ
gizem- Çavuş
- عدد الرسائل : 108
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 29/11/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
عذراً منك أخ كيزام أنا لا أقصد الأهانة لأحد
لكن الأخ يشار كمال إن لم يكن عرف عن شخصيته في المنتدى فإننا عرفناه في الحياة العامة و عى ما أظن إن 90% من في المنتدى يعرف من هو يشار كمال
بينما أنت من لم يعرف عن شخصيته الكريمة في المنتدى و طلبنا منك التعرف عليك و رفضت حتى عن طريق الرسائل الخاصة
فبرأيك من هو المجهول في المنتدى
أخ كيزام سبقت و قلت أنا لا أقصد الأهانة لأحد لكن هناك تفسيرين لا ثالث لهما
إما إنك تستحي من التعريف على نفسك و هذه مشكلتك
و إما أن التعرف علينا لا يليق بشخصيتك الكريمة
و كما قال الأخ يشار كمال
اتمنى الرد على الاسئلة و عدم التهرب من الموضوع
لكن الأخ يشار كمال إن لم يكن عرف عن شخصيته في المنتدى فإننا عرفناه في الحياة العامة و عى ما أظن إن 90% من في المنتدى يعرف من هو يشار كمال
بينما أنت من لم يعرف عن شخصيته الكريمة في المنتدى و طلبنا منك التعرف عليك و رفضت حتى عن طريق الرسائل الخاصة
فبرأيك من هو المجهول في المنتدى
أخ كيزام سبقت و قلت أنا لا أقصد الأهانة لأحد لكن هناك تفسيرين لا ثالث لهما
إما إنك تستحي من التعريف على نفسك و هذه مشكلتك
و إما أن التعرف علينا لا يليق بشخصيتك الكريمة
و كما قال الأخ يشار كمال
اتمنى الرد على الاسئلة و عدم التهرب من الموضوع
bozkurt oglu- Üst çavuş
- عدد الرسائل : 215
العمر : 36
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 13/04/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
أخي يشار أخي bozkurt oglu
ليس المهم أن يعرف أي شخص بشخصيته بقدر مايهمنا قلمه وهذه متروكة ويتمتع بها صاحب العلاقة.
ومن خلال كتابات الأخ كيزم ومواضيعه لايدل إلا أنه من التركمان الأصلاء والغيورين
وفي بداية تسجيل الأخ كيزم بالمنتدى كتب : أنا تركماني من تركمان الجولان
وهذا كافي جداً .
لكم جميعاً حبي واحترامي
أبو بكر
ليس المهم أن يعرف أي شخص بشخصيته بقدر مايهمنا قلمه وهذه متروكة ويتمتع بها صاحب العلاقة.
ومن خلال كتابات الأخ كيزم ومواضيعه لايدل إلا أنه من التركمان الأصلاء والغيورين
وفي بداية تسجيل الأخ كيزم بالمنتدى كتب : أنا تركماني من تركمان الجولان
وهذا كافي جداً .
لكم جميعاً حبي واحترامي
أبو بكر
أبوبكر برق- Üsteğmen
- عدد الرسائل : 637
العمر : 56
الموقع : حمص - باباعمرو
العائلة التركمانية : oğuz Begdili
تاريخ التسجيل : 10/03/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
شكرأعلى ردك الجميل اخي رمادي
فلزمن كفيل ليعرف بنوال السعداوي
تحياتي
ابو جيفارا
.
فلزمن كفيل ليعرف بنوال السعداوي
تحياتي
ابو جيفارا
.
yachar kamal- Ast çavuş
- عدد الرسائل : 87
الموقع : http://alhor.net
العائلة التركمانية : oğuz Begdili
تاريخ التسجيل : 15/04/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
يا شباب يعني اليس هناك ادارة وانتم من وثقتم بهذه الادارة
وبما انو الادارة تعرف الاخ كيزام فأظن انه كافي
وبما انو الادارة تعرف الاخ كيزام فأظن انه كافي
Abo Deniz- Yönetici
- عدد الرسائل : 523
العمر : 37
الموقع : damascuse
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 06/03/2008
رد: قصة بقلم : نوال السعداوي
عفواً منك عم أبو بكر لكنني لم أقرأ للأخ كيزام في بداية التعريف على أنه من تركمان الجولان
بل على ما أذكر أنه كتب أحيي كل التركمان الغيورين
أخ تورك الأدارة على العين والراس و هي يلي بتعرف مصلحة المنتدى
بس نحن كمان من حقنا نعرف و لو جزء بسيط عن الأعضاء لأنو المخربين و الحاقدين على هذه العائلة و هذاالبيت كثر و يجب علينا أن نتجنبهم
تعرضنا للكثير من الأساءات خلال مشوارنا في لمنتدى
و على ما أظن أن هذا يكفي و صبرنا بما فيه الكفاية
بل على ما أذكر أنه كتب أحيي كل التركمان الغيورين
أخ تورك الأدارة على العين والراس و هي يلي بتعرف مصلحة المنتدى
بس نحن كمان من حقنا نعرف و لو جزء بسيط عن الأعضاء لأنو المخربين و الحاقدين على هذه العائلة و هذاالبيت كثر و يجب علينا أن نتجنبهم
تعرضنا للكثير من الأساءات خلال مشوارنا في لمنتدى
و على ما أظن أن هذا يكفي و صبرنا بما فيه الكفاية
bozkurt oglu- Üst çavuş
- عدد الرسائل : 215
العمر : 36
العائلة التركمانية : oğuz Avşar
تاريخ التسجيل : 13/04/2008
مواضيع مماثلة
» حقيقة الدكتورة السعداوي
» السعداوي وافكارها اللتي يفاخر بها البعض
» أرفعوا أيديكم عن المثقف التركماني بقلم ستران عبدالله
» تركيا .. تركيا... بقلم : عبد الله الحسن
» السعداوي وافكارها اللتي يفاخر بها البعض
» أرفعوا أيديكم عن المثقف التركماني بقلم ستران عبدالله
» تركيا .. تركيا... بقلم : عبد الله الحسن
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى