من طرف بيبرس الثلاثاء مايو 13, 2008 2:47 am
تتميز منطقة الجولان بحيز كبير في جغرافية رسالة السيد المسيح ومعجزاته ودلالاته، وبمحطات سيرته الخالدة، والتلاميذ الذين آمنوا به وواصلوا طريقه، حيث لعب الجولان دورا بالغ الأهمية في سيرة يسوع، وفي تبلور الفكر المسيحي وانتشاره إلى درجة تجعل من الجولان أرضا مقدسة دينيا. |
ونظرا لأهمية الجولان تاريخيا ودينيا صب الزميل السوري تيسير خلف جل اهتمامه على الجولان بحيث أصدر في هذا الشأن عدة كتب أهمها «الجولان في مصادر التأريخ العربي»، كما له أيضا دراسة عن «دليل الفيلم الفلسطيني»، ورواية «عجوز البحيرة»، و«دفاتر الكثف المائلة». |
استعرض المؤلف مختلف الثقافات التي عرفتها منطقة الجولان من العصور الحجرية، والمعدنية، والتاريخية، والتي احتلت حيزا كبيرا في الموروث الثقافي على الصعيد العالمي، حيث شهد الجولان العديد من حالات عبور العديد من أقوام وشعوب وجيوش الدائرة الحضارية. |
وفي هذا المجال أفادت عمليات التنقيب والدراسات الخاصة بالجولان أن قدماء الجولانيون عرفوا الثقافتين الآشولية والموستيرية وبعدها الخيامية، والكبارية، والنطوفية، والثقافة اليرموكية التي شهدتها بلاد الشام. وتطرق الكاتب إلى عبادة الجولانيون القدماء حيث تم العثور في بيت صيدا على تمثال بازلتي للإله حدد وهو عبارة عن جسم إنسان له رأس ثور. |
ويتميز هذا التمثال بمستواه الفني العالي ودلالات مضامين رموزه الفكرية وهي القمر، والثور، والسلاح، وهي مضامين خاصة بالحب، والجنس، والخصب، والقوة وذلك في تعبير واضح عن العلاقة بين هذه الرموز والإنسان من جهة أخرى. ويعتبر خلف بأن الموقع الجغرافي والخصائص الإستراتيجية لمنطقة الجولان شكل نقطة تلاقي مختلف الحضارات، والثقافات التي شهدتها الدائرة الحضارية، وساهم هذا التفاعل بدور كبير في مسألتي الإبداع والتطور. |
ومن خلال دراسات آثار الجولان يؤكد الباحث على اهتمام إنسان هذه المنطقة بفلسفة الحياة وجوهر الوجود التي أبرزت رهافة الحس الفني لهذا الإنسان وقدرته الكبيرة على التعبير عن المشاعر وتجسيدها بدلالة الأعمال الفنية التي أبدعها أبناء هذه المنطقة من مختلف العصور، من المجسمات الحجرية، والمعدنية، والعاجية، إلى الزخارف والنقوش على الصخور والأبنية، ولاسيما دور العبادة، والتي استمد الفنان معظم رموزها من البيئة المحلية، ولاسيما من العالمين النباتي والحيواني. |
وتطرق المؤلف إلى الجولان في الموروث المسيحي حيث بدأت علاقة يسوع بالجولان في وقت مبكر عندما لجأ يسوع إلى بيت صيدا عابرا نهر الأردن حين علم باعتقال يوحنا المعمدان وسجنه، وتعرف هناك على خمسة صيادين ودعاهم إلى إتباعه وأصبحوا من تلاميذه. |
وهكذا نالت منطقة الجولان شرف زيارة يسوع المسيح للعديد من مواقعها حيث زار الكرسي، وبانياس الجولان، وصعد إلى جبل حرمون، وتجول في بعض مدنها وعاد إلى الجليل عبر فيق وسوسيا في جنوبي الجولان. |
واستعرض خلف المعجزات التي قام بها يسوع في الجولان والتي ميزت سيرته ورسالته ووضعت المحال أمام الناس حقيقة، منها معجزات تتعلق ببعض الحالات المرضية كمعالجة وشفاء حماة بطرس ـ أحد تلاميذه ـ والرجل الأعمى في بيت صيدا، والمشلول على الطريق إلى بيت صيدا، ونازفة الدم البانياسية، والرجل الأصم من أبناء الديكابولس، وطرد الشياطين من الرجلين الممسوسين إلى الخنازير في الكرسي، وغرق هذه الخنازير في بحيرة طبرية. |
بالإضافة إلى معجزات خاصة بالجوع والشبع، فقد أشبع خمسة آلاف رجل في بيت صيدا، ما عدا الأولاد والنساء فقط بخمسة أرغفة وسمكتين. ويرى المؤلف بأن منطقة الجولان عرفت انتشارا للدين المسيحي في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير الذي أطلق الحرية للدين المسيحي، ووفر فرص انتشاره في عام 313 ميلادي، وارتفعت الكنائس والأديرة العامرة في مختلف أنحاء الجولان . |
حيث تشير أسماء بعض المواقع فيها إلى جذور المسيحية مثل كلمة دير أو دوير (دير عزيز، دير قروح، دير مفضل، دير سراس، دير الراهب، دوير بان، وتل الدوير) بالإضافة إلى عدد من الكنائس، وتوضح هذه الكثافة مدى انتشار المسيحية في هذه المنطقة. |
وتطرق الباحث إلى شخصيات خالدة في الفكر الإنساني عموما والمسيحي خصوصا أنجبها الجولان، بما لعبته من دور في تاريخ العالم، وساهمت في إغناء المعرفة البشرية، والتمسك بالحق والفداء، أهمها سمعان بن يونا وهو أحد ثلاثة تلاميذ الحلقة الداخلية التي قربها المسيح إليه، وأحد قادة الكنيسة في القدس (أورسالم) أطلق عليه يسوع لقب بطرس أي الصخرة باليونانية. |
وكذا أندراوس بن يونا وهو أخو بطرس، ويعقوب بن زبدي، يوحنا بن زبدي، فيليب، مكسيميوس الحكيم الجولاني، الأسقف فيلوكالوس البانياسي، الأسقف نرقيس، الأسقف مرتيريوس، باروخيوس، أوليمبوس، القديس أراستس، القديس بروكوبيوس البانياسي المعترف، القديس غريغوريوس البانياسي الديكوبوليتي. |
وينقلنا الكاتب في جولة أثرية إلى بانياس مدينة الله التي تتميز بنبعها الجميل ونهرها الغزير، وكهفها اللغز، وموقعها الرائع في حضن حرمون وآثارها الوثنية، والمسيحية، والإسلامية، وبقايا سورها وقلعتها، وقد كانت بانياس مزيجا ممتعا من الطبيعة الخلابة والتاريخ الحافل بالأحداث، والثقافة الثرية لتصبح أحد أشهر المواقع القديمة ليس في الجولان وحده وإنما في المنطقة كلها. |
تقع بانياس عند الأقدام الجنوبية الغربية لجبل حرمون(الشيخ)، على بعد 18 كم شمال غرب مدينة القنيطرة، حاضرة الجولان، و15 كم جنوب شرق مرجعيون في لبنان، وعلى ارتفاع 320 مترا فقط فوق سطح البحر. |
ويرى خلف بأن بانياس استمدت اسمها من الإله الوثني «بان» وهو إله الرعاة، والغابات، والحيوانات البرية، والجبال عند الإغريق، وظهرت بانياس للمرة الأولى في التاريخ المدون في القرن الثالث قبل الميلاد أي في العصر الهيلينستي، كما كشفت عمليات التنقيب في محيط بانياس عن العديد من المواقع التي تعود إلى العصرين البرونزي والحديدي. |
ويذهب خلف إلى أن المدينة خضعت للحكم السلوقي منذ الفترة (197- 200) ق.م، ثم خضعت للحكم الروماني، وفي القرن الرابع ميلادي كانت أسقفية فينيقية تابعة للبطريركية الأنطاكية، وسكنها الغساسنة ثم فتحها العرب عام 636، ثم احتلها الفرنجة عام 1130. |
ثم وقعت بيد المغول عام 1260 ودمروها مع قلعة الصبيبة المجاورة لها، غير أن الملك الظاهر بيبرس قام بترميمها من جديد وأعاد لها الحياة وجعلها نيابة تتبع لها مساحات واسعة من شمال الجولان، ولكنها تراجعت بعد الاجتياح العثماني لبلاد الشام ومصر. |
ويؤكد المؤلف بأن بانياس قد تعرضت للاحتلال عدة مرات ولاسيما في الربع الثاني من القرن الثاني عشر، كما تعرضت للخراب عدة مرات نتيجة الزلازل التي وقعت في المنطقة، إلا أنها صمدت في وجه عوامل الفناء وبقيت آهلة بالسكان منذ أن ظهرت ودون انقطاع، إلى أن قامت إسرائيل باحتلالها وطرد سكانها في يونيو من عام 1967. |
ومن جهة أخرى تطرق خلف إلى التاريخ الديني لبانياس باعتبارها موقعا مقدسا منذ فترة عبادة البعول ثم الإله بان، وفي التاريخ المسيحي أولى السيد المسيح اهتماما خاصا بزياراته المتكررة، فحظيت المنطقة كلها بشرف الاهتمام والزيارة والانتقال من الوثنية إلى المسيحية، ودعم السيد المسيح والمساهمة في نشر المسيحية، والحصول على حيز كبير في جغرافية سيرته الخالدة. |
وينقلنا الكاتب إلى بيت صيدا ..المدينة المفقودة التي كانت على الدوام هدفا ومقصدا للحجاج وعلماء الآثار والباحثين الأكاديميين على مر العصور، وفي الأزمنة السحيقة، قطع كثير من المؤمنين مسافات شاسعة لزيارتها حيث قام السيد المسيح بالعديد من المعجزات الكبرى. |
ويعتبر الكاتب بأنه في السنوات الأخيرة فقط توصل الأركيولوجيون مستفيدين من المعطيات الحديثة إلى إجماع بشأنها، وتم تحديد موقع التل (تل الأعور أو تل عامر)في سهل البطيحة الجولاني كمكان وحيد ونهائي لهذه المدينة المفقودة. |
وقد أشار العهد الجديد إلى أن هذه المدينة التي يعني اسمها مكان صيد السمك تقع إلى الشرق من نهر الأردن أي في الجولان، حيث التقى فيها المسيح أتباعه الأوائل فيليب وبطرس وأندراوس ابنا يونا، ويوحنا ويعقوب ابنا صياد السمك زبدي، حيث قام بمعجزة إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، وكذا معجزة علاج الرجل الأعمى، ومعجزة المشي على الماء. |
وسلط خلف الضوء على سوسيا «قلعة الحصن» وهي مدينة حصينة تقع شمال كفر حارب بحوالي 1 كم وجنوب شكوم بحوالي 2كم، وشرق بحيرة طبرية بحوالي 5. 1 كم، بنيت هذه المدينة على أرض لها شكل مثلث متساوي الساقين تقريبا، عرفت باسم سوسيا وهي كلمة آرامية تعني الحصان. |
كما عرفت باسم هيبوس وهي كلمة إغريقية تعني أيضا الحصان، أما الآن فيسميها العامة قلعة الحصن(جمع حصان)، ويعتقد الباحث بأن المعنى الواحد للتسميات المختلفة يعود إلى ظاهرة جغرافية في المكان، إذ يبدأ الموقع من الزاوية اليمنى كرأس حصان وعنقه. |
وقد حافظت قلعة الحصن على مكانتها وطابعها المسيحي في العصر الأموي إلى أن ضربها زلزال عام 749م المدمر والذي أسفر عن تدميرها وخرابها، ويقدر بعضهم أن عدد سكانها بلغ في ذروة ازدهارها نحو 10 ـ 20 ألف نسمة. يأتي الكتاب في إبراز منطقة الجولان ودورها الكبير في التاريخ المسيحي أين قضى السيد المسيح الكثير من أيامه ومارس فيها رسالته، وقد تشرفت أرض الجولان بأقدام السيد المسيح ما يجعلها أرضا مقدسة. |
*الكتاب: المسيح في الجولان |
*الناشر: داركنعان ـ دمشق 2008 |
*الصفحات: 112 صفحة من القطع الكبير |
بيبرس